مستقبل القوة الأمريكية فى العالم هو موضوع الدراسة التى يعرض لها العدد الجديد من سلسلة "أوراق" التى تصدرها وحدة الدراسات المستقبلية التابعة لمكتبة الإسكندرية، حيث تتناول الدراسة الجدل الدائر في الولاياتالمتحدة حاليا حول مستقبلها كقوة عظمى، وموقعها في البنية المستقبلية للنظام الدولي ، في ظل تحولات القوة العالمية وأبرزها صعود القوى الآسيوية وعلى رأسها الصين. ويتقاسم هذا الجدل تياران؛ يذهب أحدهما إلى حتمية أفول القوة الأمريكية، فيما يذهب التيار الآخر إلى استمرار الولاياتالمتحدة في قيادتها للعالم في المستقبل، وتعرض الدراسة وجهة نظر كل تيار من خلال ترجمة مقالين لكل من عالم السياسة "ستيفن والت" الذى يمثل التيار الأول، والمؤرخ الأمريكى "روبرت كاجان" الذى يمثل التيار الآخر . فقد كتب ستيفن والت في جريدة ناشيونال إنترست في أكتوبر 2011 مقالا تحت عنوان "نهاية العصر الأمريكي" ذهب فيه إلى أن العصر الذي قامت فيه الولاياتالمتحدة بترتيب العالم أمنيًا وسياسًا واقتصاديًا قد ولى، ذلك العصر الذى بدأ فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونجحت فيه الولاياتالمتحدة أن تصبغ العالم بنظامها من خلال مؤسسات اقتصادية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ورغم أن الولاياتالمتحدة لاقت منافسة من غريمها الاتحاد السوفييتي في إطار الحرب الباردة، إلا أنها نجحت في فرض نموذجها على العالم وإنهاء الحرب الباردة لصالحها، كما نجحت في بناء منظومات أمنية ودفاعية في مناطق نفوذها التي تحدت بها النفوذ السوفييتي المناوئ لها، كما في شرق آسيا وجنوب شرقها وفي المنطقة العربية . ووفقًا للكاتب، جاء انهيار الاتحاد السوفيتى كتتويج للعصر الأمريكي ، ووقفت واشنطن وحدها على قمة النظام الدولي، وكان فرصة نادرة لها لتشكيل العالم بعد زوال خصمها، غير أن الحديث عن الانهيار كان قد بدأ يلوح في الأفق، وهو ما تنبأ به المؤرخ "بول كينيدي" في كتابه عن "صعود وسقوط القوى العظمى في العالم" وغيره من علماء الساسة في أواخر الثمانينيات. ثم شهد العقدان التاليان تحولات في القوى العالمية بصعود بعض القوى الذي جاء خصمًا من رصيد الولاياتالمتحدة وهيمنها على العالم، فكان الصعود الاقتصادي للصين أبرز هذه التحديات مع تزايد القوة الاقتصادية للهند والبرازيل وتركيا، كما أخذت روسيا في التعافي من عثرتها الكبيرة، وتحاول هذه القوى وغيرها أن تبني مناطق نفوذ في محيطها الإقليمي، أي أن تقوم بترجمة قوتها الاقتصادية الصاعدة إلى نفوذ استراتيجي بما يخصم من النفوذ الأمريكي، ورغم أن بعض هذه القوى – كما يؤكد "والت" – حليف وصديق للولايات المتحدة إلا أنها سوف تتحدى نفوذها للدفاع عن مصالحها. ويضيف أنه رغم محاولة إدارة بوش الإبن استعادة الهيمنة على العالم من خلال الحرب على الإرهاب، إلا أن حربي العراق وأفغانستان لم تؤديا إلا إلى تأكيد عجز القوة الأمريكية عن أن تكون إيجابية، مع الأخذ فى الاعتبار الأزمة التي أصابت الاقتصاد الأمريكي منذ 2008 وأثرها السلبي على القوة الأمريكية . ويقول "والت" إن عصر الانحطاط الأمريكي قد حل قبل آوانه، لأن قادة الولاياتالمتحدة قد اقترفوا العديد من الأخطاء الفادحة، وليس بالضرورة أن تؤدي هذه الأخطاء إلى مزيد من التآكل، إذا أفلح الأمريكيون في التعلم من دروسها. ومن هنا يبدأ في طرح سبل محافظة الولاياتالمتحدة على موقفها العالمي الحالي الذي لازال متصدرًا وقائدًا للعالم ، فيقول إن عليها أن تحدد أولوياتها في العالم، وأن تستخدم أدوات النفوذ المثلى، وأن توازن بين القوة السياسية والعسكرية في مواضعها المناسبة، ويقترح أن تعيد واشنطن بناء وجودها في العالم على استراتيجية "الموازنة الخارجية" التي توزع عبء قيادة العالم بينها وبين حلفائها بهدف الإبقاء على الهيمنة النافعة في نصف العالم الغربي والإبقاء على ميزان القوة بين الدول الكبرى في الأوراسيا وفي الخليج العربي حيث النفط . فى مقابل وجهة النظر هذه كتب المؤرخ الأمريكى "روبرت كاجان" المحسوب على تيار المحافظين الجدد, مقالا بعنوان "لم تفقد قوتها بعد : خرافة الانحطاط الأمريكي" نشر بجريدة "نيو ريباليك" في يناير 2012 ؛ قام فيه بنقد الاتجاه الذي يتحدث عن حتمية الانهيار الأمريكي وتفنيده تاريخيًّا، حيث أكد أنه أسير لرؤية زمنية مؤقتة متأثرة بظروف الأزمة الاقتصادية الأخيرة، كما أنه يركز في تحليله لتحولات القوة على مشاهد زمنية قصيرة في الوقت الذي تنتج فيه هذه التحولات عن تراكمات تحدث عبر عقود من التغير في مجموع عوامل القوة للدولة. ويؤكد "كاجان" أن عناصر القوة الأمريكية لم تشهد تحولاً هائلاً في العقود الأخيرة، فلازال الاقتصادي الأمريكي هو الأول عالميًا ولم يؤثر صعود القوى الاقتصادية الأخرى على هذا المركز بل على مركز كل من اليابان وأوروبا ، كما أنه لا توجد قوة عسكرية في العالم تضاهي القوة الأمريكية، ويضيف أن صعود القوى الأخرى على أي مستوى ليس بالضرورة تهديدًا للهيمنة الأمريكية، فصعود اليابان وألمانيا في أول عقدين من الحرب الباردة رغم أنه خصم من نصيب الولاياتالمتحدة في الناتج العالمي إلى النصف، إلا أنه كان إضافة إلى الحلف الذي تقوده في مواجهة السوفييت، ومن الملاحظ أن القوى الصاعدة - فيما عدا الصين - كالهند وتركيا والبرازيل هي حليفة للولايات المتحدة ، وربما يخدم صعود الهند الحد من القوة الصينية في جنوب آسيا . كما يرى "كاجان" أن التحدى الصيني رغم أهميته إلا أنه لا يقارن بالتحدي السوفييتي أيام الحرب الباردة ، ومن ثم يمكن التعامل معه ، مشيرا إلى أنه رغم كل الأزمات التي مرت بها الولاياتالمتحدة إلا أنها كانت قادرة على اجتيازها بنجاح ، فهناك العديد من عوامل القوة التي تتمتع بها أمريكا من نظام سياسي قوي قائم على الحرية والانفتاح ، ويجزم "كاجان" من تحليله أن لواء قيادة العالم لازال معقودًا لواشنطن ولازال قرار الانحطاط أو الاستمرار في القيادة بيد الأمريكيين. وفيما يخص العالم العربى لا سيما بعد ثورات الربيع العربى يقول الباحث محمد العربى فى تعليقه؛ إن هذه الثورات لم تؤد إلى طرد النفوذ الأمريكي بالكامل خاصة أنها لازالت في بدايتها ولم تتضح وجهة تعاملها مع الولاياتالمتحدة، ومع ذلك توفر تحولات القوة العالمية وصعود وانحسار قوى بعينها فرصة هامة للبلدان العربية لتبلور سياسات خارجية قائمة على تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية.