المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - يعتمد علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. إنه الصحابى خباب بن الأرت -رضى الله عنه-، وكان خباب قد ولد فى قبيلة تميم، وأُسر فى مكة، فاشترته أم أنمار بنت سباع، وكان صانِعًا للسيوف، يبيعها ويأكل من عمل يده، فلما سمع عن الإسلام أسرع إلى النبى ( ليسمع منه عن هذا الدين الجديد، فشرح الله صدره، ثم أعلن إسلامه ليصبح من أوائل المسلمين. وتعرض خباب لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر فى سبيل الله، فقد كانوا يضعون الحديد المحمى على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود فى ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- يومًا عما لقى من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لى نار، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهرى (أى دهن الظهر). وذات يوم كثر التعذيب على خباب وإخوانه المسلمين المستضعفين، فذهب مع بعض أصحابه إلى رسول الله (، وكان متكئًا فى ظل الكعبة، وقالوا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال لهم رسول الله (: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [البخاري]. فزاد كلام النبى ( خبابًا وأصحابه إيمانًا بنصر الله، وإصرارًا على دعوتهم، فصبروا واحتسبوا ما يحدث لهم عند الله -عز وجل-. وكانت أم أنمار تأخذ الحديد الملتهب ثم تضعه فوق رأس خباب الذى كان يتلوى من شدة الألم، ولكن الله أخذ بحق خباب من هذه المرأة المشركة حيث أصيبت بسعار جعلها تعوى مثل الكلاب، ولا علاج لها إلا أن تكوى رأسها بالنار، فكان الجزاء من جنس العمل. وأحب خباب إسلامه حبًّا شديدًا، جعله يضحى من أجله بأغلى ما يملك من نفس ومال، فقد ذهب إلى العاص بن وائل أحد المشركين الكافرين ليطلب منه ثمن السيوف التى صنعها له قبل ذلك، فيقول له العاص: لا أعطيك شيئًا حتى تكفر بدين محمد، فرد عليه خباب: لا، والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، فقال له العاص مستهزءًا وساخرًا: فأنى إذا مت ثم بعثت، جئتنى يوم القيامة، ولى هناك مال وولد فأعطيك؟! فأخبر خباب النبى ( بذلك، فأنزل الله قرآنا كريمًا يذم فيه هذا المشرك، قال تعالى: {أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لآوتين مالاً} [مريم: 77]_ [ابن سعد والبخاري]. وأحب خباب العلم، وحرص على سماع القرآن ونشره بين إخوانه المسلمين، ففى أيام الدعوة الأولى كان خباب يدرس القرآن مع سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب، عندما دخل عليهم عمر بن الخطاب. وجاءت الهجرة، فأسرع خباب ملبيًّا أمر النبى (، فهاجر إلى المدينة، وهناك آخى الرسول ( بينه وبين تميم مولى خراس بن الصمة -رضى الله عنهما-، وشارك خباب فى جميع غزوات الرسول (، وأظهر فيها شجاعة وفروسية، وظلَّ محبًّا للجهاد فى سبيل الله، وشارك خباب فى الفتوحات أيام أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضى الله عنهما-. ثم نزل خباب فى الكوفة وبنى لنفسه بيتا متواضعًا عاش فيه حياة زاهدة، وبالرغم من هذه الحياة البسيطة، كان يعتقد أنه أخذ من الدنيا الكثير، فكان يبكى على بسط الدنيا له، وكان يضع ماله كله فى مكان معروف فى داره لكى يأخذ منه كل محتاج من أصحابه الذين يدخلون عليه، وفى مرضه الذى مات فيه دخل عليه بعض الصحابة، فقالوا له: أبشر يا أبا عبد الله، ترد على محمد ( الحوض، فأشار خباب إلى أعلى بيته وأسفله قائلاً: كيف بهذا؟! وقد قال رسول الله (: (أنه يكفى أحدكم مثل زاد الراكب) [ابن ماجه]، ولقد رأيتنى مع رسول الله (ما أملك درهمًا، وإن فى جانب بيتى (الآن) لأربعين ألف درهم. وطلب خباب كفنه، فلما رآه بكى، وقال: لكن حمزة -رضى الله عنه- لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على رأسه قلصت (انضمت) عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر. ودخل عليه بعض أصحابه فقال لهم: إن فى هذا التابوت (الصندوق) ثمانين ألف درهم، والله ما شددت لها من خيط ولا منعتها من سائل، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أبكى أن أصحابى مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنا بقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعًا إلا التراب. وفى عام (37 ه) صعدت روح خباب إلى بارئها ودفن بالكوفة، ولما عاد على بن أبى طالب -رضى الله عنه- من معركة صفين، مر بقبر خباب؛ فقال: رحم الله خبابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتلى فى جسمه أحوالاً.