المنهج الإلهي - في إصلاح البشرية وهدايتها إلي طريق الحق - معتمدا علي وجود القدوة التي تحول تعاليم ومبادئ الشريعة إلي سلوك عملي، فكان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - هو القدوة التي تترجم المنهج الإسلامي إلي حقيقة وواقع، قال تعالي: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» (الأحزاب:21)، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه - صلي الله عليه وسلم - قالت: «كان خلقه القرآن»! (2)، وقال صلي الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم، لهذا كانت لنا هذه الوقفة مع الأنبياء والصحابة والرعيل الأول من النساء المسلمات لنتعلم منهم وعنهم. إنه الفاروق عمر بن الخطاب-رضى الله عنه، ولد بعد عام الفيل بثلاث سنوات، وكان من بيت عظيم من قريش، وكان قبل إسلامه من أشد الناس عداوة لرسول الله وأصحابه، وكان يرى أن محمدًا قد فرق بين الناس، وجاء بدين جديد، فبلغ من ضيقه وكرهه أنه حمل سيفه وتوجه إلى النبى يريد أن يقتله، وفى الطريق قابله رجل، فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، قال الرجل: وكيف تأمن من بنى هاشم وبنى زهرة إذا قتلته؟ فقال عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذى كنت عليه. قال الرجل: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال عمر: وما هو؟ قال: أختك وزوجها قد صبوا وتركا دينك الذى أنت عليه. فغضب عمر أشد الغضب، وغير وجهته؛ حيث اتجه إلى بيت أخته فاطمة ليرى صدق ما أخبر به، فلما أتاهما وكان عندهما خباب بن الأرت-رضى الله عنه-، فدفع عمر الباب وقد سمع أصواتهم وهم يقرءون القرآن، فقال مستنكرًا: ما هذه الهيمنة (الصوت غير المفهوم) التى سمعتها عندكم؟ فقال سعيد بن زيد زوج أخته: حديثًا تحدثناه بيننا. قال عمر: فلعلكما قد صبوتما. فقال له سعيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق فى غير دينك؟ فوثب عمر عليه وأخذ يضربه، فجاءت أخت عمر فدفعت عمر عن زوجها فلطمها بيده، فسال الدم من وجهها، فقالت: يا عمر، إن كان الحق فى غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فلما يئس عمر منهما قال: أعطونى هذا الكتاب الذى عندكم فأقرأه، فقالت أخته: إنك نجس ولا يمسه إلا المطهرون، فاغتسل أو توضأ، وعلمته كيف يتوضأ، فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب وقرأ الآيات الأولى من سورة طه، فقال عمر: دلونى على محمد. فلما سمع خباب قول عمر خرج من المخبأ، وهو يقول: أبشر يا عمر، فإنى أرجو أن تكون دعوة رسول الله (لك ليلة أمس: «اللهمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام» قد استجيبت، ثم خرج خباب مع عمر إلى دار الأرقم فى جبل الصفا، حيث كان رسول الله (وأصحابه. فلما اقتربا من الدار، وجدا على بابها حمزة بن عبد المطلب -رضى الله عنه- ومعه طلحة بن عبيد الله، وبعض الصحابة -رضى الله عنهم- فلما رآه حمزة قال لمن حوله: هذا عمر، فإن يرد الله بعمر خيرًا يسلم ويتبع النبى، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ثم خرج رسول الله (حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وقال: ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة. فقال عمر: أشهد أنك رسول الله، وشهد شهادة الحق، فكبر المسلمون تكبيرة سُمعت فى طرق مكة. ثم قال عمر: يا رسول الله، علام نخفى ديننا ونحن على الحق، ويظهرون دينهم وهم على باطل. فقال رسول الله (: «يا عمر، إنا قليل، وقد رأيت ما لقينا»، فقال عمر: فوالذى بعثك بالحق، لا يبقى مجلس جلست فيه وأنا كافر إلا أظهرت فيه الإيمان. ثم خرج فطاف بالكعبة، ومرَّ على قريش وهم جالسون ينظرون إليه، فقال أبو جهل لعمر: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله. فهجم عليه بعض المشركين، فأخذ عمر يضربهم، فما يقترب منه أحد إلا وقد نال منه حتى أمسك عمر بعتبة بن ربيعة وضربه ضربًا مبرحًا، ثم ذهب عمر إلى الرسول (وأخبره، وطلب منه أن يخرج معه ليعلنوا إسلامهم أمام مشركى مكة، فخرج النبى (وأصحابه، فطافوا بالكعبة وصلوا الظهر، ولقب عمر منذ ذلك بالفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل. [ابن سعد]. وكان عمر -رضى الله عنه- مخلصًا فى إسلامه، صادقًا مع ربه، شديد الحب لله ورسوله، فلزم النبى (، ولم يفارقه أبدًا، وكان هو والصديق يسيران مع النبى حيث سار، ويكونان معه حيث كان، حتى أصبحا بمكانة الوزيرين له، وكان (يقول: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» [أحمد والترمذى وأبو داود]، ويقول: «لو كان بعدى نبى لكان عمر» [ابن عبد البر]. وقد بشره رسول الله (بالجنة، فهو أحد العشرة المبشرين بها، قال (: خلت الجنة، أو أتيت الجنة فأبصرت قصرًا، فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله، فلم يمنعنى إلا علمى بغيرتك»، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله: بأبى أنت وأمى يا نبى الله، أو عليك أغار. [متفق عليه]. ولما أذن رسول الله (لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، كانوا يهاجرون فى السر خوفاً من قريش، وتواعد عمر بن الخطاب مع عباس بن أبى ربيعة المخزومى وهشام بن العاص على الهجرة، واتفقوا على أن يتقابلوا عند مكان بعيد عن مكة بستة أميال ومن يتخلف منهم فليهاجر الآخر، فتقابل عمر مع عباس عند المكان المحدد، أما هشام فقد أمسكه قومه وحبسوه. فهاجر عمر مع عباس إلى المدينة، فلما هاجر إليها رسول الله (آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك -رضى الله عنهما-. وتكون المجتمع الإسلامى فى المدينة، وبدأت رحلة الجهاد فى الإسلام، فرفع عمر لواء الحق وأمسك بسيفه ليناصر دين الله -عز وجل- وجاءت أول معركة للمسلمين مع المشركين غزوة بدر الكبرى، فأسر المسلمون عددا من المشركين، وشاور النبى (أصحابه فى أسرى بدر، فكان رأى عمر أن يقتلوا، وكان رأى الصديق أن يفتدوا، فاختار النبى (أيسر الرأيين، ونزل على رأى أبى بكر. فنزل جبريل -عليه السلام- على النبى (ليتلو عليه آيات القرآن مؤيدًا رأى عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-، فقال تعالى: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد عرض الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [الأنفال: 67-68]، فبكى رسول الله (وبكى أبو بكر، فجاء عمر فسألهما عن سبب بكائهما فأخبراه. وشهد الفاروق عمر مع رسول الله (جميع المشاهد والغزوات، يجاهد بسيفه فى سبيل الله؛ ليعلى كلمة الحق. وفى غزوة أحد، وقف بجانبه (يدافع عنه بعد أن انهزم المسلمون. ويلحق رسول الله (بالرفيق الأعلى، فيبايع الفاروق أبا بكر الصديق، كما بايعه المهاجرون والأنصار، ويقف عمر بجانبه يشد من أزره، لا يكتم رأيًا عنه، ولا يبخل عنه بجهد فى سبيل نصرة الحق ورفعة الدين، فيكون معه فى حربه ضد المرتدين ومانعى الزكاة ومدعى النبوة، وفى أعظم الأمور وأجلها مثل جمع القرآن. ويوصى الخليفة الأول قبل موته بالخلافة إلى الفاروق عمر، ليضع على كاهله عبئًا ثقيلاً، يظل عمر يشتكى منه طوال حياته، ولكن من كان لهذا الأمر غير عمر، فإنه الفاروق، العابد، الزاهد، الإمام العادل. وحمل عمر أمانة الخلافة فكان مثالا للعدل والرحمة بين المسلمين، وكان سيفًا قاطعا لرقاب الخارجين على أمر الله تعالى، والمشركين، فكان رحيما وقت الرحمة، شديدًا وقت الشدة. فقد خرج مع مولاه وأسلم فى ليلة مظلمة شديدة البرد يتفقد أحوال الناس، فلما كانا بمكان قرب المدينة، رأى عمر نارًا، فقال لمولاه: يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم فذهبا تجاه النار، فإذا بجوارها امرأة وصبيان، وإناء موضوع على النار، والصبيان يتصايحون من شدة الجوع، فاقترب منهم، وسألهم: ما بالكم؟ فقالت المرأة: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون (يصطرخون)؟! قالت: من الجوع، فقال: وأى شيء على النار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر، فبكى ورجع إلى البيت فأحضر دقيقًا وسمنًا وقال: يا أسلم، احمله على ظهري. فقال أسلم: أنا أحمله عنك. فقال: أنت تحمل وزرى يوم القيامة؟ فحمله على ظهره وانطلقا حتى أتيا المرأة، فألقى الحمل عن ظهره وأخرج من الدقيق، فوضعه فى القدر، وألقى عليه السمن وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، حتى نضج الطعام، فأنزله من على النار، وقال: ائتنى بصحفة، فأتى بها، فغرف فيها ثم جعلها أمام الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا، والمرأة تدعو له، فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم انصرف وهو يبكي، ويقول: يا أسلم، الجوع الذى أسهرهم وأبكاهم. وعاش عمر -رضى الله عنه- يتمنى الشهادة فى سبيل الله -عز وجل-، فقد صعد المنبر ذات يوم، فخطب قائلاً: إن فى جنات عدن قصرًا له خمسمائة باب، على كل باب خمسة آلاف من الحور العين، لا يدخله لا نبي، ثم التفت إلى قبر رسول الله (وقال: هنيئًا لك يا صاحب القبر، ثم قال: أو صديق، ثم التفت إلى قبر أبى بكر-رضى الله عنه-، وقال: هنيئًا لك يا أبا بكر، ثم قال: أو شهيد، وأقبل على نفسه يقول: وأنى لك الشهادة يا عمر؟! ثم قال: إن الذى أخرجنى من مكة إلى المدينة قادر على أن يسوق إليَّ الشهادة. واستجاب الله دعوته، وحقق له ما كان يتمناه، فعندما خرج إلى صلاة الفجر يوم الأربعاء (26) من ذى الحجة سنة (23ه) تربص به أبو لؤلؤة المجوسي، وهو فى الصلاة وانتظر حتى سجد، ثم طعنه بخنجر كان معه، ثم طعن اثنى عشر رجلا مات منهم ستة رجال، ثم طعن المجوسى نفسه فمات. وأوصى الفاروق أن يكمل الصلاة عبد الرحمن بن عوف وبعد الصلاة حمل المسلمون عمرًا إلى داره، وقبل أن يموت اختار ستة من الصحابة؛ ليكون أحدهم خليفة على ألا يمر ثلاثة أيام إلا وقد اختاروا من بينهم خليفة للمسلمين، ثم مات الفاروق، ودفن إلى جانب الصديق أبى بكر، وفى رحاب قبر المصطفى.