في مقال سابق كتبت عن تغيير المنظومة المعرفية في أحد أشكاله السلبية ومن أمثلته ما يحدث من تغيير لشخصية الديكتاتور أو من يبقي في السلطة فترات طويلة.. والمقصود بالمنظومة المعرفية هو معطيات المعرفة التي يمتلكها كل شخص ومصادر المعرفة المتجددة التي يتلقاها والعلاقات التي تقوم بينها وبالتالي تتشكل معرفة هذا الشخص بناء عليها.. واليوم أحاول فهم شكل آخر من تغيير المنظومة المعرفية ولكن في طريق إيجابي، لا علي مستوي شخصي بل علي مستوي عام.. من الواضح أن المنظومة المعرفية القديمة للشعب المصري قد انهارت هذه الأيام.. وبدأت تحل محلها منظومة معرفية جديدة تعتمد علي معطيات لم تكن واضحة من قبل وتبحث عن مصادر مختلفة وتقوم بينها علاقات جديدة تشكل معرفة غير مسبوقة.. ومن ملامح انهيار المنظومة القديمة اختفاء مفاهيم الخوف والسلبية والصمت السياسي وابتغاء السلامة والتي كانت سائدة من قبل وكانت تحكم غالبية المصريين حتي في طريقة تربيتهم ونصحهم لأبنائهم.. ومن المفاهيم المنهارة أيضا أن التعليم يسير في اتجاه واحد مصدره الكبار واتجاهه إلي الصغار.. أما المنظومة الجديدة فتعتمد معطيات لم يتم توضيحها واعتمادها من قبل مثل قدرة الصغار علي امتلاك نواحٍ من المعرفة قد لا يدركها الكبار وبالتالي يسير التعليم في عدة اتجاهات إذ صار من الممكن أن يتعلم الكبار من الجيل الأصغر.. ومن المعطيات المعرفية الجديدة الإيمان بالقوة الشعبية القادرة علي التغيير والتعبير عن ضمير الأمة.. كما صار التفاؤل بالمستقبل بالرغم من مشكلات الحاضر أحد المعطيات التي تتفق عليها الغالبية العظمي في المجتمع.. مصادر المعرفة القديمة كانت تتمثل بشكلها الأكبر في الإعلام بكل أشكاله من صحف قومية وخاصة لقنوات تليفزيونية وأخري فضائية، بعضها مصرية وأخري عربية أو أوروبية.. أما مصادر المعرفية الجديدة فتتمثل في الانترنت وفي التواصل الشخصي وتناقل الأخبار عبر الأشخاص لا عبر المتخصصين.. مصادر المعرفة الجديدة تعتمد علي الجملة القصيرة التي لا تزيد علي 140 حرفا علي تويتر ولا تنظر إلي الحشو والكلمات المنمقة والجمل الطويلة.. كما أنها ترفض التحليل والنقد والآراء التي تفرض من قبل من يمسكون بمكبرات الصوت ويفرضون تلك الآراء.. بل يفرض الخبر نفسه ويعبر الجميع عن آرائهم بخصوصه دون فرض ولا استحواذ.. أما العلاقات المعرفية فهي ما يقوم به كل شخص لتصنيع وانتاج منظومته المعرفية الشخصية وهي ليست عامة بل ذاتية.. فكل منا قد يتجاوب مع المعطيات الجديدة للمعرفة ويذهب للمصادر الجديدة لها ولكن توظيف هذه وتلك هو ما يقوم به عقل كل فرد تبعا لخلفياته الثقافية وقدراته العقلية ومعتقداته الفكرية بل طباعه الشخصية أيضا.. فمنا من يتجه للتفكير بمنطق المؤامرة.. ومنا من يتجه للبحث عن الاستقرار والاكتفاء بما تحقق من صورة جديدة للمنظومة.. وآخرون يرون أن التغييرات التي تمت ليست كافية وليست جذرية.. بينما يصل آخرون إلي قناعة بضرورة الانتظار وعدم الوصول إلي أية نتائج في هذه المرحلة المرتبكة.. المنظومة المعرفية القديمة قد انهارت، ولكن الجديدة لا تزال في المراحل الأولي للتكوين..