ماتت الصحافة المصرية مرتين، مرة عندما أعلنت الرقابة الصحفية، ومرة عندما أممت الصحافة! والصحافة الحرة هي تاج علي رأس الشعب، والصحافة المقيدة هي حذاء في قدم الحاكم!! الشعب يريد تطهيراً كاملاً، فلا يجوز أن تقصر يد العدالة عن الذين أثروا من الإتجار في قوت الشعب، بل يجب أن يعلم الناس أن نظامنا الديمقراطي لا يسمح برشوة أو فساد، ويجب أن يعلم الناس أن الرجل الذي يسرق مليون جنيه لا يعفي من العقاب، مادام الرجل الذي يسرق قرشاً واحداً يقدم إلي القضاء. الشعب يريد إصلاحاً كاملاً، إصلاحاً حقيقياً لا مشروعات علي الورق! الشعب يريد عهداً جديداً يرتفع الرجل فيه بكفايته وعلمه وخبرته، لا بحسبه ونسبه، ولا بأن يقبل أن يقوم بأعمال حقيرة يأنف منها الرجال الشرفاء. الشعب يريد عدالة سريعة. لا يجوز أن يبقي بريء واحد ساعة واحدة داخل السجون ولا أن يبقي مجرم واحد خارج السجون. الشعب يريد إصلاحاً اجتماعياً تضيق به المسافة بين الطبقات فنأخذ من الكبير لنعطي الصغير، ونقتطع من الغني لنطعم الفقير، ونجعل لكل مصري أملاً في حياة حرة جديدة، لا طغيان فيها ولا استبداد ولا محسوبية ولا رشوة ولا فساد!! نحن لا نريد استبدال طغيان بطغيان، ولا حزبية بحزبية، ولا فساد بفساد، إنما نحن ندعو إلي عهد جديد، تكون فيه كلمة الشعب هي العليا حقاً وفعلاً، تكون فيه الدولة في خدمة الشعب قولاً وعملاً، وتكون فيه المساواة التامة بين العشرين مليونًا من المصريين. الشعوب تكره الصحف الرسمية، تمقت الجرائد التي لا عمل لها إلا حرق البخور للحاكم، وتبرير أخطاء الحكام، والدفاع عن كل خطأ، والإشادة بعبقرية أي هلفوت مادام من مراكز القوي وأصحاب النفوذ والسلطان!! بعض الذين يتولون مناصب في الدولة يضيق بحرية الصحافة، فقد تصور أن المقصود بحرية الصحافة هو حريتها في أن تثني عليه، وتشيد به، وتنشر صورته وتتحدث عن عبقريته وتتكلم عن محاسنه، ولم يتصور أبداً أن معني ذلك إن تنتقده، إن الحرية هي أن تقول الحقيقة كاملة!! في الديمقراطية ترتفع أصوات المناقشة والنقد، وفي الديكتاتورية، ترتفع كلمات المديح والثناء والطبول والزمر في الديمقراطية أرباح معلنة وخسائر معلنة، وفي الديكتاتورية تخفي الخسائر الحقيقية وتعلن الأرباح الوهمية. ما أعظم الفرق بين أسلوب الرأي السياسي في ظل حرية الصحافة وأسلوبها في قيودها وأغلالها، كانت الصحافة الحرة أعلي صوتاً وأكثر جرأة وأطول لساناً وكانت الصحافة المقيدة تهمس ولا تتكلم، تومئ ولا تشير إذا خافت سجدت وإذا تشجعت ركعت! ولو أعدنا نشر ما كان يكتبه الدكتور طه حسين ضد سعد زغلول، وما كان يكتبه عباس محمود العقاد ضد الأحرار الدستوريين لوجدنا فرقاً كبيراً بين الصحافة الحرة «المتوحشة» والصحافة المقيدة «المستأنسة». كان السياسيون في عهد حرية الصحافة يتحملون النقد والهجوم، قيل فيهم أكثر مما قاله مالك في الخمر. وكان من بين الأبواب المشهورة في المجلات في الثلاثينيات باب اسمه «حقائق وقاذورات» و«من بئر قذر» تنشر فيه المجلات الفضائح الشخصية للساسة والوزراء. وصدرت مجلات تخصصت في الشتائم والسباب مثل «السيف والمسامير» كانت النسخة منها تباع بمليم واحد!! وفي أول الأمر أقبل الناس علي هذا النوع من الردح السياسي، ثم انحسر هذا الأسلوب بفضل انتشار التعليم وأصبح القارئ المصري يضيق بالشتائم ويكره السباب وظهر أسلوب النقد المؤدب العف يتزعمه عبد القادر حمزة في جريدة البلاغ ثم أسلوب النقد الساخر يتزعمه محمد التابعي في مجلة روزاليوسف. وكانت جريدة الكشكول أول جريدة تطاولت علي الزعيم سعد زغلول ووجهت إليه أشنع التهم وانهالت عليه بالشتائم والسباب وهزأت به وسخرت منه ونشرت الأكاذيب عن زعماء الوفد فلم تترك واحداً منهم إلا ومزقته شر ممزق!! وبعد وفاة سعد زغلول استمرت الكشكول تهاجم الوفد إلي أن أنبري الدكتور «سعيد عبده» وكان طالباً في كلية الطب وقام بحملة عنيفة علي الكشكول وصاحبها سليمان فوزي في مجلة روزاليوسف، وكانت مجلة روزاليوسف توزيع عشرة آلاف نسخة، وكانت مجلة الكشكول توزع ثلاثين ألف نسخة أسبوعياً. وأخطأت الكشكول خطأ قاتلاً، فقد بدأت ترد علي مجلة روزاليوسف ومضي «سعيد عبده» في حملته الشعواء الضارية، وفي كل أسبوع يزيد توزيع روزاليوسف ويقل توزيع الكشكول إلي أن أصبح توزيع مجلة «روزاليوسف» ثلاثين ألف نسخة في الأسبوع وتوزيع مجلة الكشكول ثلاثة آلاف نسخة! ومنذ ذلك اليوم لم تقم قائمة لمجلة الكشكول. ولم تكن كل السطور الرائعة السابقة سوي بعض فقرات مما كتبه الكاتب الصحفي الكبير في كتابه البديع «لكل مقال أزمة» طبعة عام 1979 عن المكتب المصري الحديث!!