ماذا تريدون من صحافة مصر أن تفعل أكثر مما فعلت؟! إنها لا عمل لها الآن.. إلا الإشادة بالحكام صباح مساء! لا تنشر إلا صورهم.. لا تهتم إلا بأخبارهم، لقد أصبحت صحف القارئ الواحد، بعد أن كانت صحف الملايين! كانت مهمة الصحافة المصرية أن ترضي الشعب فأصبحت مهمتها أن ترضي الحاكم، كانت تنشر ما يهم الشعب فأصبحت لا تنشر إلا ما يهم الحاكم، كانت تقول للحاكم ما يريد الشعب فأصبحت تقول للشعب ما يريد الحاكم! كان الشعب هو الذي يختار الكتاب في انتخابات حرة تجري كل يوم بلا تزييف ولا تقييد ولا تزوير! إذا أقبل الشعب علي كاتب لمع وأصبح رئيساً للتحرير! وإذا انصرف الشعب عن كاتب هوي وانطفأ وأغلقت الجريدة أبوابها! فالشعب كان هو الذي يعين رئيس التحرير وهو الذي يرفته! أما الآن فإن الحاكم يفرض علي الشعب المحرر الذي يريده الحاكم، ويحرم الشعب من الكاتب الذي يريده الشعب! كان الكاتب في الماضي مسئولاً أمام الشعب، وأما اليوم فقد أصبح الكاتب مسئولاً أمام الحاكم يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا أراد ويطرده إذا غضب عليه! لا توجد صحافة في أي بلد تفعل للحكام ما تفعله الصحافة المصرية للحكام بعد تأميمها!! أي جريدة في العالم تنشر اسم الحاكم في كل مانشيت في كل أيام الأسبوع بغير انقطاع؟! أي جريدة في العالم تنشر كل يوم صورة الحاكم في صفحتها الأولي، أي جريدة في العالم تنشر خطب الحاكم كاملة بغير اختصار مهما كانت مكررة ومعادة؟! أي جريدة في العالم تقول لقرائها كل يوم إنه لا يوجد في البلد إلا رجل واحد، هو الذي يفكر، وهو الذي يبحث، وهو الذي يقرر، وهو الذي يستقبل، وهو الذي يسافر وهو الذي يعود!! امسك أي جريدة بريطانية واحسب كم مرة في الشهر ذكرت اسم ملكة إنجلترا!! أو امسك أي جريدة في أمريكا واعرف كم مرة في الأسبوع نشرت صورة الرئيس «كارتر» أو امسك أي جريدة في فرنسا واعرف كم مرة نشرت خطب في العام للرئيس ديستان رئيس الجمهورية السابق. ثم تعال هات لي أي مجلة في العالم فعلت كما فعلت مجلة المصور التي مكثت تنشر صورة الرئيس «السادات» علي غلافها لمدة عام كامل إلا بضعة أسابيع وبغير انقطاع، لم يحدث لهذا النفاق لا في صحف الشرق ولا في صحف الغرب. لو كانت الصحافة حرة لما جري لنا كل ما جري، ولتفادينا كل الأخطاء، لاكتشفنا العيوب في كثير من المشروعات، لأوقفنا الكثير من الصفقات المريبة لاستطعنا أن نحقق لبلادنا نصراً داخلياً كما حققنا نصراً عسكرياً في حرب أكتوبر. لو كانت الصحافة حرة لما وافق مجلس الشعب علي تعديل الدستور بحيث يحق لرئيس الجمهورية أن يرشح نفسه ما يشاء من المرات مخالفاً نص الدستور الذي لا يجيز لرئيس الجمهورية أن يرشح نفسه أكثر من مرة ثانية! الشعب يريد صحافة حرة، وهو يتابع باهتمام المناقشات التي تجري الآن (سنة 1976) عن ضرورة تحرير الصحافة من أي قيد ومن أي سيطرة ولا أحد يريد من الصحفيين أن تكون الصحافة مملوكة للاتحاد الاشتراكي أو للدولة، حرية الصحافة لا يجوز أن ترتبط بفرد ولا بحاكم، وإنما يجب أن يملك الصحف قراؤها وعمالها ومحرروها بأسهم لا تتجاوز مائة جنيه للفرد الواحد، وبأن ينتخب مجلس إدارتها انتخاباً حراً، وليس معني هذا أننا لا نثق في حسن اختيار الحاكم لأعضاء مجالس إدارة الصحف، ولكن لو طبقنا هذه القاعدة لوجب أن نترك للحاكم اختيار أعضاء مجلس الشعب!! إن رئيس الجمهورية له الحق في تعيين عشرة أعضاء فقط من 360 نائباً يختارهم الشعب ولا مانع من أن يكون لرئيس الجمهورية نفس النسبة في اختيار أعضاء مجالس إدارات الصحف. وإذا كانت الصحافة حرة لما جرؤ أحد علي أن يضع قوانين للصحافة في غيبة الصحفيين، فيسمي الصحافة سلطة بأن يجعلها حذاء في قدم الحاكم، ولو كانت الصحافة حرة لطالبت بأن يوضع الأكفاء في المناصب بدلاً من الإمعات من الأصدقاء والمحاسيب، ولو كانت الصحافة حرة لدرست كل قرار قبل أن يصدر، ونبهت إلي أنه قرار انفعالي قد يكلفنا البلايين، وأن خطاباً مرتجلاً قد يؤثر علي اقتصادنا، وإننا نستطيع أن نناقش بغير أن نسب ونشتم ونتهم!! لو أن صحافتنا حرة لما كان هذا حالنا! وسوف يسوء حالنا يوماً بعد يوم إلي أن نحرر صحافتنا، فنحرر أنفسنا من الجهل والغرو والانفصال! والله مع صحافتنا». ولم تكن كل السطور السابقة سطوراً للكاتب الكبير الأستاذ «مصطفي أمين» كتبها ونشرها في كتابه أفكار ممنوعة» عام 1984 ( دار الشروق) صحيح إنه كتبها منذ 27 سنة بالضبط لكنها ترصد أحوال الصحافة هذه الأيام.