تجربة مشاهدتي للفيلم الأمريكي «the socieal network» أو كما عرض تجارياً في الصالات المصرية تحت اسم «قصة الفيس بوك» تشبه بالضبط حكاية الرجل الذي تسلم شيكا بمبلغ معتبر من المال فلما ذهب إلي البنك اكتشف أن الشيك بدون رصيد ذهبت إلي الفيلم ومعي هذا الشيك الثمين ممثلا في تفاصيل حكاية تأسيس موقع «الفيس بوك» أشهر المواقع الاجتماعية التي تضم 500 مليون إنسان علي وجه المعمورة وقصة المؤسس الشاب الصغير مارك زوكر برج الذي كنت قد عرفت بعض ملامح صعوده الصاروخي واعتقدت أن في هذا الصعود الذي جعله أصغر ملياردير في العالم ما يكفي لصناعة عمل جيد وكان في خانة الشيك الثمين أيضا أن مخرج الفيلم هو ديفيد فنيشو صاحب الأفلام المميزة من «نادي القتال» إلي «سبعة» إلي «الحالة الغريبة لبنيامين بوتون» فلما دخلت لمشاهدة الفيلم وطوال ساعتين تقريبا من المتابعة اكتشفت من الآخر أن الشيك الذي دخلت به بدون رصيد هناك جهد كبير لا شك في تربيط المشاهد ومحاولة ضبط إيقاع الحوارات الطويلة ولكن كل ذلك يضيع وسط طوفان من الثرثرة المعلوماتية والإغراق في التفصيلات وعدم القدرة علي إشباع خط واحد مؤثر يجعلنا نعيش الأحداث ونتفاعل معها وأظن أنه أحد أسوأ الأفلام التي شاهدتها مقتبسة عن وقائع حقيقية رغم أن الأمريكيين مشهورون ببراعتهم في معالجة هذ النوعية من الأفلام. حتي لا تتوه معي مثلما تهت وأنا أتابع فيلم «قصة الفيس بوك» أقول لك إن السيناريو الذي كتبه آرون سوركن عن كتاب قام بتأليفه «بن زيريخ» مثقل بالمعلومات والتفصيلات التي يمكن أن تحصل علي أضعافها من الانترنت ورغم أنه اتخذ طابعا تسجيليا إلا أنه حتي لو أردت أن تضفي علي عملك هذا الطابع فلابد أن تحدد أولاً محور الدراما ثم تضع كل التفصيلات في خدمتها بصورة مشوقة لابد أيضا أن ترسم شخصياتك بصورة جيدة وقوية وخاصة أن كل أبطال الفيلم أحياء علي الأرض يرزقون. ربما يكون للكتاب المأخوذ عنه الفيلم هذا الطابع القريب من التحقيق الصحفي أو التليفزيوني ولكن عندما تكتب العمل للسينما لابد أن تأخذ بالضبط ما تحتاجه مع تحديد المواقف واتجاه الصراع ولكن «قصة الفيس بوك» حاول أن يسير في اتجاهين معا الاتجاه الأول هو نجاح طالب جامعة هارفارد النابغ مارك زوكر برج في إنشاء موقع الفيس بوك عام 2003 ثم نجاحه في استغلاله اقتصاديا بحيث جعله مليارديرا في نهاية المطاف أما الاتجاه الآخر فهو مقاضاة زوكر برج نفسه بتهمة سرقة الفكرة وعدم إعطاء حقوق ثلاث شخصيات كانوا أيضا طلابا في هارفارد وهم الشقيقان كاميرون وتيلور وينكليفوس وشريك الأول وصديقه ومديره المالي إدوارد وسافيرين وفي معظم أجزاء السرد يسير الخطان متوازيان حيث تتداخل عملية محاكمة زوكر برج مع تفاصيل صعوده الإلكتروني والمالي لا مشكلة أبداً ولا اعتراض علي هذا البناء الطموح جداً ولكن المشكلة في هذا الحشود السردي والحواري طوال ساعتين كاملتين مما يجعلك تتساءل عما إذا كان الأمر يستحق كل ذلك والمشكلة الأخطر أنك تخرج تقريباً دون أن تفهم رغم ذلك أشياء كثيرة لأن كاتب السيناريو كان مهتما بالتكديس لا الشرح والتفسير فمثلاً ستسأل نفسك: هل مارك يتصارع مع الآخرين من أجل المال أم من أجل انفراده بالمجد الأدبي؟ هل سرق الفكرة أم أن الآخرين يقومون بابتزازه؟ هل هو شخص يعوضه ذكاؤه عن كل شيء أم أنه يشعر بالدونية تجاه أصدقائه الأكثر منه ثراء؟ هذه أسئلة محورية والإجابة عنها تعني أن لدينا دراما قوية وشخصيات واضحة المعالم والدوافع ستسأل نفسك ما هو المعني في حكاية شاب ابتكر شيئاً ثم نازعه البعض في ساحات القضاء؟ تصور أن فيلم «قصة الفيس بوك» لا يري في الحكاية إلا هذا الجانب وياليته ينجح في تقديمه بشكل مشوق وبحبكة قوية وإنما نتأرجح معه صعوداً وهبوطاً ودائما تبدو المعلومات هي الأهم فالأحداث يتم سردها بتفاصيلها بمجرد أنها حدثت هكذا في الواقع دائما نقول أن الدراما الجيدة تقوم علي تفاصيل ولكن ليس إلي الدرجة التي تصبح فيها التفاصيل عبئاً علي الدراما نفسها فلا نحن شاهدنا قصة اجتماعية عن علاقات بين عدة أصدقاء ولا نحن شاهدنا تفاصيل قضية متماسكة تنظرها المحاكم وأعجب ما أثار دهشتي أن السيناريست الذي أغرق نفسه في حكايات مليئة بالتفاصيل لم يلتفت إلي الخيط الوحيد الذي كان يمكن أن يصنع دراما عظيمة فهناك تناقض صارخ بين صانع ومؤسس أكبر شبكة تواصل اجتماعي علي مستوي العالم وبين حياته الاجتماعية الفقيرة جدا حياته محورها الكمبيوتر وصديقته الوحيدة هجرته وصديقه الصدوق إدواردو سافيرين اشتكاه في المحكمة ولكن هذا الخط باهت تماماً وبالكاد تستطيع أن تصل إليه وسط طوفان الحكايات والأسهم والأرقام والنسب المئوية. رغم كل ما نراه من عالم «مارك» الخاوي حيث لا نجد له عائلة أو أبا أو أما فإن بطلنا لا يعنيه سوي شيء واحد هو «أنا صاحب فكرة الفيس بوك» علي طريقة عاطف «الأشموني» صاحب العبارة الشهيرة: «أنا مؤلف الجنة البائسة»! ولو ألمح السيناريو إلي مجرد شعور «مارك» بالوحدة رغم أنه جعل الكرة الأرضية تصادق بعضها من خلال الفيس بوك لصنع ذلك شعورا دراميا مؤثرا بدلا من هذا «البرود» الذي جعلنا نتابع صراعا لا نستطيع أن ننحاز فيه لطرف من الأطراف. ولنتوقف قليلا عند رسم الشخصيات: حكاية «مارك» بأكملها بدأت بما يشبه انتقام المراهقين: حبيبته «اريكا أولبرايت» أصابها الصداع النصفي - مثلما أصابنا- بسبب ثرثرته المستمرة فتركته بعد أن قالت له «يا غبي»، الحقيقة أنها قالت له عبارة نابية لا يمكن كتابة ترجمتها الحرفية، باللغة العربية، فما كان منه إلا أن اخترق شبكة جامعة «هارفارد» الشهيرة، ورد إليها السباب والتشهير وانشأ موقعا بعنوان «فيس ماش» دخله 22 ألف طالب في ساعات لاختيار أجمل البنات إثارة، ولكن هذا الحادث الذي عوقب بسببه «مارك» بمراقبته أكاديميا لمدة 6 أشهر، جذب إليه أنظار ثلاثة شباب في هارفارد يمارسون التجديف ويحلمون بتأسيس موقع اجتماعي يحمل اسم «وصلة هارفارد»، هؤلاء الثلاثة هم: الشقيقان «كاميرون وينكليفوس» و«تايلور ونيكليفوس» وزميلهما «ديفيا نارنيدرار» لقد استدعوا «مارك» وطلبوا منه تنفيذ الفكرة ولكنه اختفي واستعان بصديقه «ادورد» الذي دفع ألف دولار كبداية لانجاز الفكرة «مارك» قال إنه لم يستخدم أبدا «كود» فكرة «وصلة هارفارد» وقال في التحقيق إنك إذا صنعت كرسيا خاصا فليس معني ذلك أنك سرقت فكرة الكرسي عموما، لا يعنيني شخصيا هذا الجدل ولكن ما يعنيني موقف صناع الفيلم الذين لا يفسرون لنا لماذا يبدو «مارك» هو صاحب الفكرة منفردا؟ ولماذا لم يتمسك بموقفه حتي النهاية فقبل أن يدفع مبلغا للإخوين «وينكليفوس» ثم قبل أن يدفع 65 مليون دولار ل«إدواردو» وإذا كان «مارك» لا يحب النقود ويحتاج إلي الحماية.. لماذا لم يوقف الخلاف مع إدواردو، ورغم التفاصيل فإن هناك نقطة أخري أكثر غموضا وهي: لماذا يبدو «مارك» معقدا من ثراء زملائه ودخولهم النوادي مع أنه معهم في «هارفارد» جامعة الصفوة؟! كل ما وضح في الفيلم هو السخرية من الشقيقين «ونيكليفوس» اللذين يمثلان الارستقراطية المنقرضة، ولكنهما ظهرا أفضل بكثير من «شون باركر» الذي سيفتح باب الثروة أمام «مارك»، أيهما أفضل: ارستقراطية الشقيقين وخصومتهما الشريفة أم تعاطي «شون» للكوكايين والقبض عليه؟! يمكن أن تعتبر ما سبق مجرد أمثلة لكي أؤكد لك فكرتي في أن الدراما تقوم علي توظيف المعلومات الضرورية لا تكديسها، علي مستوي التنفيذ لا أنكر أن هناك اجتهادا كبيرا في التنفيذ وتحديدا في أداء الممثلين والمونتاج، إلي حد كبير كانت الانتقالات سلسة بين مشاهد المحاكمة ومشاهد العودة إلي الماضي، ولكني مازلت أعتقد أن ضبط الفيلم كان يحتاج إلي كثير من التكثيف، خذ مثلا لمشهد مقابلة الشقيقين «ونيكليفوس» لعميد جامعة «هارفارد» الذي استغرق شهرين أحدهما في حجرة السكرتارية، يجب بشكل خاص الإشادة بأداء ثلاثة من الممثلين الشباب المميزين حقا: «جيس ايزنبرج» في دور «مارك زوكر برج»، وأندروجارفيلد» في دور «إدواردو سافيرين» و«جاستون تمبرليك» في دور «شون باركر»، رغم ملاحظة واحدة مزعجة هي الطريقة السريعة التي ينطقون بها الحوار علي طريقة «يوسف شاهين»، قد تكون هذه إحدي لوازم «مارك زوكربرج» الحقيقي، ولكن أن تصبح إحدي لوازم معظم الشخصيات التي تمارس الثرثرة طوال الوقت، فإن ذلك يعني شيئا واحدا هو أن تخرج من قائمة العرض بشيك بدون رصيد ومصابا بنوع من أنواع الصداع النصفي!