جديد الأردن هذه الأيام لا يقتصر علي تغيير الحكومة التي كانت برئاسة السيد سمير زيد الرفاعي واحلال السيد معروف البخيت مكانه.. جديد الأردن، الكلام الذي يصدر عن جهات معينة من بينها أبناء عشائر تشكل مسا بمؤسسة العرش.. معظم هذا الكلام مبالغات في بلد تنتشر فيه الاشاعات كالنار في الهشيم، خصوصا في ظلّ ازمة اقتصادية لا يمكن انكار وجودها.. لكن هذا التطاول لا يعني في الوقت ذاته عدم حصول تجاوزات أو ارتكاب أخطاء وسوء اختيار لبعض المسئولين الذين يشبهون أولئك الذين كانوا يحيطون بالرئيس حسني مبارك ويقولون له إن كل شيء علي ما يرام يا "ريّس". ولكن، كل هذا شيء، والواقع الأردني، علي حقيقته، شيء آخر لا يمكن مقارنته بمصر أو تونس أو بما يمكن حدوثه في هذه الدولة العربية أو غير العربية أو تلك في المستقبل القريب أو البعيد. كانت أهمية الاردن، ولا تزال، في القدرة المتجددة التي تمتلكها القيادة الهاشمية علي فهم الوضع في الداخل وفي الإقليم واستيعاب خطورته والعمل علي احتوائه ثم تجاوزه.. مع الوقت، استطاعت المملكة الخروج من أزمات عميقة عائدة في معظمها الي التعقيدات الإقليمية.. تصدّت المملكة بامكاناتها المتواضعة لموجات الهياج العربية المتنوعة البعيدة عن أي نوع من العقلانية.. حصل ذاك عن طريق اعتماد العقل والتعقل والمنطق السليم بغية بلوغ ما كان يحلم به الملك حسين، رحمه الله، منذ صعوده إلي العرش شابا صغيرا. كان هدف العاهل الاردني الراحل وحلمه يتمثّلان منذ البداية في اقامة دولة مؤسسات من جهة ونظام قائم علي التعددية الحزبية من جهة أخري.. بني الحسين المؤسسات الاردنية خطوة خطوة، وهو ما مكّن المملكة من مواجهة العواصف العاتية التي تعرّضت لها المنطقة ومعها الاردن.. وبين هذه العواصف الحرب العراقية- الايرانية التي استمرت ثماني سنوات، ثم تدفق الفلسطينيون علي الاردن في ضوء المغامرة المجنونة التي اقدم عليها صدّام حسين باحتلاله الكويت في العام 1990 .. هذا ما جعل انتقال العرش الي الملك عبدالله الثاني يتم بطريقة سهلة، علي غرار ما يحصل في الدول المتقدمة التي فيها أنظمة مشابهة، اي ملكيات دستورية. استطاع الملك حسين الوصول إلي نظام قائم علي نوع من الحياة البرلمانية المبنية علي وجود أحزاب معترف بها، بعدما أجريت تحت اشرافه الاصلاحات السياسية المطلوبة التي توجت بانتخابات الثامن تشرين الثاني- نوفمبر 1989 .. كانت تلك التجربة مجرد بداية في حاجة إلي تطوير، لكن الاحداث التي شهدتها المنطقة، بدءا بغزو العراق للكويت والحرب الذي تلته عطلت التجربة الاردنية وان مؤقتا وحالت دون اكتمالها. عاشت المملكة منذ قيامها علي وقع الازمات الاقليمية، كان علي الملك حسين الدفاع عن عرشه وعن الاردن في استمرار.. تعرضه للظلم، ظلم ذوي القربي من العرب أولا.. صمد الاردن في وجه الانقلابات العسكرية والمؤمرات والمد الناصري بشعاراته الفارغة.. واجه وحده الانقلاب العسكري الدموي الذي اطاح الحكم الهاشمي في العراق في الرابع عشر من تموز- يوليو 1958 ..في كل مرة، كان الاردن يخرج من المواجهة مثخنا بالجروح، لكنه ظلّ يقاوم.. خسر القدس والضفة الغربية بعدما شارك في حرب العام 1967 تحت ضغط المزايدات والمزايدين. واضطر في العام 1970 إلي إخراج المقاتلين الفلسطينيين من اراضيه للمحافظة علي القضية الفلسطينية وقطع الطريق علي مشروع الوطن البديل الذي كان يشجع عليه اليسار الفلسطيني والاردني وقتذاك، وصار يشجع عليه الاسلاميون والقومجيون المطالبون بالغاء معاهدة السلام مع اسرائيل الآن.. بين 1970 و2011، لم يتغيّر شيء لدي المزايدين.. كانوا يساريين، فأصبحوا إسلاميين وقومجيين. كل طرف من هذه الاطراف يخدم إسرائيل بطريقته وشعاراته للأسف الشديد.. المزايدات والشعارات الطنانة الفارغة هي ما يجمع بين كل هذه الاطراف التي كادت تقضي علي الاردن. لا حاجة الي تعداد كل ما فعله الملك حسين من اجل الاردنيين ومن اجل قضية فلسطين ومن اجل العرب عموما.. ولا حاجة الي تعداد ما يفعله حاليا الملك عبدالله الثاني من أجل التصدي للتحديات التي تواجه المملكة التي زاد عدد سكانها علي نحو كبير في السنوات القليلة الماضية التي لا تمتلك أي موارد تذكر، اضافة إلي أنها تعاني من مشكلة خطيرة اسمها مشكلة ندرة المياه.. أكثر من ذلك، كان علي العاهل الاردني التعاطي مع مشكلة كبيرة لم تشهد المنطقة مثيلا لها عندما أصرّ الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الابن علي احتلال العراق واسقاط النظام فيه.. لايزال الاردن يعاني من الزلزال الاقليمي الذي تسبب به جورج بوش الابن والذي لا تزال تداعياته تهز المنطقة. ما يميّز الأردن أنه يعرف كيف يدافع عن نفسه في احلك الظروف. أنه يواجه الاطماع الاسرائيلية في الضفة الغربية ويساعد الفلسطينيين في المحافظة علي أمنهم والتمسك بارضهم. ويواجه خصوصا الارهاب والتطرف عن طريق نشر ثقافة إسلامية حقيقية تقوم علي مبدأ الاعتراف بالآخر علي حد تعبير عبدالله الثاني. في كل يوم يمرّ، تبدو الحاجة اكثر إلي تفادي التلهي بالقشور والتركيز في المقابل علي كيفية تجاوز المرحلة الراهنة بتعقيداتها وحساسياتها. الأكيد أن هناك انتهازيين يعتقدون أن عليهم، في هذه الايام بالذات، استغلال أي ثغرات للنيل من العرش الهاشمي الذي يرمز الي وحدة الاردن والاردنيين ورفضهم لمشروع الوطن البديل والاصرار علي دولة المؤسسات التي لا تميّز بين مواطن وآخر. لكن الاكيد أيضا أن الاردن قادر علي تجاوز المرحلة الراهنة لسبب في غاية البساطة. يتمثل هذا السبب في أن عبدالله الثاني يعرف ماذا يريد الاردنيون، لكنه يرفض في الوقت ذاته الانقياد للشارع. لو قبل في الماضي الانقياد للشارع، لكان الاردن الآن في خبر كان. هناك في المقابل تفهم كامل لأي مطالب محقة للمواطن، بما في ذلك للحال الاقتصادية المتردية. ولكن هل يمكن الوصول الي حلّ أو مخرج عن طريق نشر الاشاعات أو الاتهامات التي لا أساس حقيقيا لها؟ أم أن المخرج يكون بفهم أن المرونة التي تتسم بها تصرفات القصر الملكي والمؤسسات المختصة لا تعني ضعفا في أي شكل من الاشكال بمقدار ما أنها دليل علي أن نية استيعاب الجميع متوافرة شرط التخلي عن الشعارات الفضفاضة. منذ متي تبني الشعارات، مهما كانت جميلة، أوطانا؟ منذ متي تؤمن الشعارات الصمود في وجه ما تخطط له إسرائيل وما تهئ للفلسطينيين وللضفة الغربيةوالقدس خصوصا؟