من الأمور المثيرة للغثيان، وذات الدلالة الخطرة في نفس الوقت، ما اعتاد الدكتور محمد البرادعي مؤخراً أن يردده، حين يقول: إن مجلس الشوري ومجلس الشعب ليسا شرعيين، وأنه لا يمكن أن يعطي العملية السياسية المصرية غطاءً شرعياً بأن يشارك فيها. أن يعتبر البرادعي نفسه أكبر من المؤسسات القانونية المصرية، فإن ذلك يمثل تطاولاً منه ليس فقط علي المؤسسات ولكن علي كل الأفراد العاملين في السياسة المصرية.. وأن يظن أن الأحزاب المصرية تفتقر إلي الشرعية وأنه لن يدخل فيها لكي لا يضفي عليها الشرعية.. فإن هذا ليس موقفاً سياسياً بقدر ما هو إهانة متعمدة منه لكل من في هذه الأحزاب. ومن جانب آخر، فإن هذا الذي يكرره يعبر عن غرور أحمق، ويجسد تعالياً من شخص يظن أن مجرد مشاركته سوف يعطي الآخرين مسحة من قداسة مكانته.. في حين أن الواقع يقول إن البرادعي شخص غير قادر علي أن يخوض غمار السياسة من الأصل.. وليس التنافس السياسي بإجماله.. تواصله محدود.. ارتباطه بالواقع المصري هش.. تفاعله مثلج.. رؤيته غير واضحة.. كلامه غير مفهوم.. شعاراته بلا سند.. وتجربته بلا تاريخ.. وانتظامه متقطع.. وأفكاره بعيدة عن الناس. لقد كنا نعامل الدكتور البرادعي بكثير من الرفق.. تقديراً لمكانته الدولية.. وقيمته كمصري نجح في الخارج.. لكنه لم يتفهم هذه الأريحية.. بل ظن أنه فوق النقد.. فبدأ يطلب من الآخرين تقديسه.. وينظر إلي أي نقد علي أنه اضطهاد.. أما وأنه يتهم المؤسسات بأنها غير شرعية.. فإن عليه أن يفهم أن ما يردده ليس سوي رد فعل لإدراكه أن وجوده في الساحة المصرية يفتقد الجذور.. وتعوزه بالفعل شرعية الاحتكاك.. مغترب.. غريب.. يظن نفسه وصياً علي المصريين. ثم ماذا يقصد البرادعي بالحديث عن عدم شرعية المؤسسات البرلمانية.. هل يعني هذا أنه يري أن بقية المؤسسات غير شرعية.. أم أن هذه شرعية وتلك ليست كذلك؟! إن عليه أن يفك تلعثم أفكاره لكي يشرح نفسه.. ويعبر عن فكرة واحدة متكاملة.. جملة لها مبتدأ وخبر.. ومعني له بداية ونهاية.. نريد أن نفهمه.. وما نكاد نمسك له برأي يمكن اعتباره متبلوراً حتي نجده قفز خارج البلد.. ثم يعود من جديد لكي يلاحقنا بارتباك ما يردد. هذا المرشح الذي يمارس السياسة في مصر علي كبر، وبعد أن تقاعد، مرشح وقت الفراغ، عليه أن ينظر إلي القلادة المعلقة في صدره.. قلادة النيل.. التي وجد فيها شرعية التقدير من المؤسسة المصرية.. باعتبارها أسمي تكريم مصري.. ينظر إليها ويسأل نفسه: أليست هذه القلادة شرعية.. لو لم تكن كذلك لماذا قبلها؟ أليس الذي منحها له رئيساً منتخباً.. بدستور أقره مجلس الشعب الشرعي.. أم تري أن خبير القانون لم يعد يفهم في القانون؟ في يوم 7 فبراير 2006، وبعد أن وضع الرئيس علي صدر البرادعي قلادة النيل، وعقب خطاب تكريمي مشبوب بالعواطف والمباهاة من الرئيس عن وصفه بأنه ابن بار بمصر، كان أن وقف البرادعي ليقرأ بصعوبة كلمة بالعربية قال في مطلعها ما يلي: «فخامة الرئيس.. إنني لأعتز كثيراً بهذا التكريم السامي الذي يمنحه لي بلدي مصر وأتقدم بخالص الشكر إلي السيد الرئيس محمد حسني مبارك الذي بادر إلي الاتصال بي فور حصولي علي جائزة نوبل للسلام والذي منحني اليوم أرفع وسام مصري». لعل البرادعي يذكر هذه الكلمات، ولعله يستوعب معاني الشرعية، ولعله يراجع القانون لكي يعيد تعريف المصطلحات في ذهنه، ولعله يراجع نفسه ويبحث عن مبررات تقنع الناس بشرعية طرح نفسه عليها من الأصل.. ولعله يدرك أن اختلافه مع السياسة في مصر لا يعني أننا يمكن أن نقبل منه أن ينفيها.. وأن الشرعية لا ينبغي أن تفّصل علي مقاسه.. حتي يكون هو نفسه صاحب مواصفات شرعية. إن البرادعي يدرك أن مصداقيته تنفد.. ويستوعب حقيقة أن الرأي العام اكتشف حجمه.. وأن مناصريه ينفضون من حوله.. وأنه يرتكب أخطاءً ساذجة متوالية.. وأنه شخصياً اكتشف أنه ليس لديه ما يطرحه علي الناس.. وأنه يفتقر إلي الجاذبية.. وأن كل الذين راهنوا عليه اكتشفوا قدراته.. وإذا أراد مني نصحاً فإن عليه أن يأخذ إجازة أخري من تلك التي اعتادها ويعيد ترتيب أوراقه.. قبل أن يفقد الرصيد المتبقي من تراث العمل الدولي.. إذ ليس له رصيد أصلاً في مصر. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]