فى الحلقة السابقة ذكرنا أنه تمت دعوة مصر للمشاركة فى أول «مكابياه» أو أولمبياد صهيونى فى تل أبيب فى عام 1932.. وقد تساءل كثيرون: كيف تتم دعوة مصر لحضور مثل هذا المحفل الرياضى الصهيونى؟!.. والذى قد لا يعلمه كثيرون أن جذور الصهيونية كانت متغلغلة فى التربة الرياضية المصرية منذ أمد بعيد، ويكفى أن نقول إن أول رئيس حكومى للنشاط الرياضى فى مصر - أو ما يوازى حاليا منصب رئيس المجلس القومى للرياضة - كان صهيونياً وهو جاك جوهر. ولأننا لا نحتفظ فى مصر بأرشيف رياضى تاريخى موثق، لذلك فقد أرهقنا البحث والتنقيب وراء اسم جاك جوهر، الذى علمنا عنه أنه من مواليد عام 1887 وغير معلوم عام وفاته، وكان ضابطا فى الجيش الإنجليزى فى الحرب العالمية الأولى برتبة كولونيل، وبقصد أو بدون قصد دخل فى علاقة صداقة حميمة مع الأمير أحمد فؤاد الذى كان يرافق والده الخديو إسماعيل فى منفاه بإيطاليا. وبعد أن توطدت علاقة الصداقة بين الأمير والكولونيل لم يكن غريباً أن يصطحبه معه بعد عودته حاكماً على مصر ويكون من بين حاشيته التى جلبها معه من إيطاليا.. ولمهارة جاك جوهر الكبيرة فى تنظيم الحفلات والسهرات الخاصة (جدا) للملك أحمد فؤاد فيما بعد، أنعم عليه بمنصب مراقب عام النشاط الرياضى فى بر عموم مصر المحروسة. وتذكر كتب التاريخ الملكى المصرى أن جوهر هذا كان من نجوم المجتمع اليهودى المصرى، خاصة أنه تزوج من سيلين ابنة عائلة «عدس» اليهودية الثرية والشهيرة، وانضم لعضوية أندية المكابى الصهيونية، وأصبح نائبا لرئيس أندية المكابى العالمية، كما تم اختياره نائبا لنادى السيارات الملكى وهو ذلك النادى الذى كان يضم صفوة المجتمع المصرى خاصة اليهود، ومنهم على سبيل المثال عائلات موصيرى وعدس وشيكوريل ومزراحى، والذين كانوا يخسرون على طاولات القمار كل ليلة برضاهم التام أمام الملك فاروق الذى استعان بجاك جوهر بعد وفاة أبيه وأبقى عليه بين حاشيته الإيطالية التى كانت من أهم أسباب تقويض أركان ملكه بعد ذلك. المهم أن جاك جوهر استغل كل سلطاته الممنوحة له سياسيا من الملك فؤاد ومن بعده ابنه الملك فاروق، وكذلك اقتصاديا والتى اكتسبها من نسبه مع عائلة عدس وهى من أغنى عائلات اليهود فى مصر وهى نفس العائلات الثرية التى أسست أندية المكابى فى مصر، ومن أشهر هذه العائلات موصيرى وشيكوريل وعاداه وقطاوى، والعائلة الأخيرة بالتحديد كان كبيرها وعميدها هو رئيس الطائفة اليهودية فى مصر وهو يوسف قطاوى باشا الذى كان مقرباً من الملك فؤاد، وبالطبع من جاك جوهر. ويقول الدكتور عرفة عبده فى كتابه «يهود مصر.. بارونات وبؤساء»: «إن زعماء الطائفة اليهودية قاموا بتوحيد جهودهم لإنشاء مؤسسات الرعاية الاجتماعية والجمعيات الدينية والثقافية التى كان هدفها بث الدعوة للتجديد والبعث الدينى والثقافى وإحياء اللغة العبرية، وقد أبرزت الصحف العبرية أنشطة هذه المؤسسات». ويؤكد الدكتور عرفة عبده فى كتابه على علاقة الاتحاد الصهيونى فى مصر بالمنظمة الصهيونية العالمية، والتنسيق التام بينهما خاصة بعد تولى حاييم وايزمان رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية فى عام 1902، قائلاً «سعى الاتحاد الصهيونى فى مصر إلى ترشيح الرياضيين اليهود خصوصا المنضمين منهم لأندية المكابى لصفوف الفرق والمنتخبات المصرية لتمثيل مصر فى المحافل الدولية الرياضية، والتركيز على انتصاراتهم، ونسب ذلك بالقطع إلى أصلهم اليهودى، مثل ما حدث من تركيز إعلامى على كل من سلفادور شيكوريل وشاؤول مويال اللذين حصلا على المركزين السابع والتاسع فى رياضة سيف المبارزة فى الدورة الأولمبية التى أقيمت عام 1928». ويبدو أن الإعداد البدنى والنفسى الجيد قد أتى بثماره على مر تاريخ الحركة الرياضية الصهيونية فى مصر، حيث اتبعت أندية اليهود آخر المستجدات على الساحة العالمية فى مجال التدريب الرياضى، كما أنها قامت بشحن لاعبيها نفسيا بالشكل الذى جعلهم يقبلون على ممارسة الرياضة والتفوق فيها لأنهم رأوا فيها «حُسن ثواب الدنيا» من خلال المكافآت المالية لفوزهم بالبطولات، بالإضافة إلى الشهرة التى تمنحها لهم الأبواق الإعلامية الصهيونية عالية الصوت. ومن النجوم الصهاينة الذين حظوا بشهرة واسعة الملاكم إيزاك إميل بطل مصر الشهير فى الملاكمة، والذى خلف سلفاتور شيكوريل فى رئاسة أندية المكابى المصرية، كما ظهرت أسماء لنجوم آخرين مثل سالو نيشيبو فى الملاكمة، ورحمى فى رمى القرص والمصارعة، وكوهين نجار فى التنس. ولم يقف حد استغلال المؤسسات الرياضية الصهيونية للنجوم الصهاينة على مجرد الدعاية لطائفة اليهودية فى مصر، بل امتد كذلك لجمع التبرعات لشراء أراض فى فلسطين لتشييد المستعمرات عليها، حيث كان ظهور مثل هؤلاء النجوم كافيا لتحقيق دعاية إيجابية بين أوساط الشباب اليهودى لدعم الفكرة الصهيونية بإقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين المغتصبة، وقامت هذه الأندية بتشكيل لجان من الشباب اليهودى المؤمن بالأفكار الصهيونية لاستقبال المهاجرين ومساعدتهم على دخول أرض فلسطين من البوابة المصرية. وكان من الطبيعى أن يتطور شكل التجمعات الشبابية الصهيونية فى مصر من درجة أندية المكابى الرياضية إلى جمعيات شبابية تعبر عن طموحات الطائفة اليهودية. وكان من أبرز هذه الجمعيات «جمعية الشبان اليهود المصريين» التى أسسها كل من د.ألفريد يلوز، ود.إسرائيل ولفنسون، وسعد يعقوب مالكى، ورحمين كوهين فى شهر يوليو عام 1935، والذى أسس ناديا رياضيا واجتماعيا بعد ذلك يحمل اسمه «نادى جمعية الشبان اليهود». وفى عام 1937 تأسست جمعية «الشباب الإسرائيليين القرائين»، والتى أسست بدورها بعد ذلك «نادى اتحاد الإسرائيليين القرائين»، والذى كان مقره بشارع العباسية. وبعد إنشاء كل هذه الأندية بدأت تظهر فى مصر المعروفة بتسامحها الدينى نعرات التعصب إلى الصهيونية من خلال شباب هذه الأندية التى كان الرياضيون الصهاينة بها يمارسون تدريباتهم الرياضية على موسيقى صهيونية سوداء ألفها نبى الصهيونية وزعيمها تيودر هيرتزل. وامتد الخلاف حول مفاهيم الصهيونية وضرورة قيام دولة إسرائيل على أراض فلسطينية مغتصبة إلى داخل الطائفة اليهودية نفسها فى مصر، وظهر ذلك جليا وواضحا فى أندية المكابى التى رأى رئيسها رينيه قطاوى أن الأفكار الصهيونية خطر على مستقبل اليهود فى مصر، واستشعر خطورة النشاط الصهيونى غير الشرعى فى أندية المكابى، فقام بمطالبة نائبه الصهيونى المتطرف ليون كاسترو بوقف هذه الأنشطة فوراً، ولكن هذا النائب المتغطرس لم يعر هذا الأمر اهتماما، وسار فى مخططه الصهيونى لحشد شباب اليهود فى أندية المكابى لتحقيق أهداف المنظمات الصهيونية الاستيطانية والاستعمارية فى أرض فلسطين، مما جعل رينيه قطاوى يستقيل من رئاسته لأندية المكابى فى مصر اعتراضا على هذه الأنشطة المشبوهة. ويبدو أن قطاوى باشا هذا لم يكن ضد جمع التبرعات لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، بل إنه كان وهو وزير للمالية ضد الممارسات الإرهابية لنائبه ليون كاسترو، حيث تذكر جرائد وصحف اليهود فى هذه الفترة أن حاييم ناحوم أفندى، الحاخام اليهودى الأكبر، قد تمكن بالتعاون مع قطاوى باشا عام 1936، من جمع 13 ألف جنيه من شباب أندية المكابى اليهودية فقط، وقام بعد ذلك الحاخام المبتسم والذى كان يشيع عن نفسه أنه ضد الصهيونية وارتبط بصلات وثيقة مع حكام مصر قبل الثورة وبعدها، برصد هذا المبلغ الكبير فى حينه لشراء أراض فى فلسطين لإيواء فقراء اليهود الذين قدموا من كل أنحاء الكرة الأرضية إلى فلسطين! ويذكر الدكتور محمد أبو الغار فى كتابه «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» أنه «بعد عام 1948 توقفت الحركة الصهيونية العلنية فى مصر، وأصبحت سرية بين الشباب فى نواديهم.. ومن هذه النوادى (يقصد أندية المكابى وجمعيات الشبان اليهود المصريين) تم تجنيد الأعضاء الإرهابيين الذين اشتركوا فى عملية «سوزانا» الإرهابية الشهيرة والتى حطمت العلاقة بين الجالية والنظام والشعب المصريين». وعملية «سوزانا» الإرهابية هذه تم إحباطها فى أعقاب ثورة يوليو 1952، وتحديدا فى عام 1954، حيث وصل إلى مصر فى عام 1951 أحد كبار العملاء الإسرائيليين، وهو ابراهام دار الشهير باسم جون دارلنج، وهو يهودى بريطانى عمل لصالح جهاز الموساد الإسرائيلى عقب تأسيس دولة إسرائيل مباشرة، وقام بتدريب وتجنيد عدد من الشباب اليهود المصريين المؤمنين بالفكر الصهيونى لتنفيذ عمليات إرهابية لإحراج حكومة الثورة المصرية فى العملية التى عرفت تاريخيا ب«فضيحة لافون». ومن بين هؤلاء الشباب فتاة يهودية تدعى مارسيل نينو وكانت آنذاك فى الرابعة والعشرين من عمرها، ومعروفة كبطلة أولمبية مصرية شاركت فى أولمبياد عام 1948، وحاولنا معرفة اللعبة التى مثلت فيها نينو مصر فى هذه النسخة من الدورات الأولمبية والتى شاركت فيها مصر فى إحدى عشرة لعبة وحصلت على ذهبيتين وفضيتين وبرونزية فى رفع الاثقال والمصارعة، لكن لم يكن اسم نينو فى سجل الأبطال، ولذلك لم ننجح فى التعرف على اللعبة الرياضية التى كانت تمارسها، وإن ذكرت بعض المصادر أنها كانت تتمتع بعلاقات واسعة خاصة فى أوساط ضباط الجيش المصرى فى أواخر حكم الملك فاروق. وبعدما تم القبض على مارسيل نينو فى أعقاب اكتشاف شبكة التجسس حاولت الانتحار مرتين وفشلت، وتم تنفيذ حكم الحبس عليها لمدة 15 سنة، وكان من المقرر أن تنتهى المدة فى عام 1970، لكن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر قرر الإفراج عنها فى عملية لتبادل الأسرى والسجناء بعد نكسة يونيو 1967. ورصد أحد الصحفيين الإسرائيليين جولدا مائير رئيسة الوزراء السابقة فى دولة الكيان الصهيونى وهى تحضر سرا حفل زفاف «العانس نينو» وهى فى الخامسة والأربعين من عمرها، ليكشف بعد ذلك من هى مارسيل نينو للمجتمع الإسرائيلى، وكيف أن الرئيس المصرى جمال عبدالناصر هو من طلب أن تكون عملية الإفراج عن نينو ضمن صفقة تبادل سرية، وبعد ذلك بفترة خرجت نينو لتفضح أمام الرأى العام الإسرائيلى حكومات بلدها التى لم تسع بالشكل الكافى من وجهة نظرها للإفراج عنها وعن باقى الجواسيس الإسرائيليين فى فضيحة «لافون»، والذين اعتبرتهم نينو الرياضية السابقة والتى لعبت تحت العلم المصرى أبطالا أدوا واجبهم تجاه دولة إسرائيل.