في 1897، احتضنت مدينة بازل السويسرية، المؤتمر الصهيوني الأول، الذي مثل ميلادًا للحركة الصهيونية السياسية، التي أسسها ثيودور هرتزل، بهدف إقامة دولة يهودية بالمعايير والقيم الصهيونية، لم يكن مكانها قد تحدد بعد حتى هذا التاريخ، ولم يكد يمر عقدين من الزمان، حتى احتضنت مدينة الإسماعيلية المصرية، عام 1928، اجتماعًا لسبع أشخاص، مثل ميلادًا لجماعة الإخوان المسلمين، التي أسسها حسن البنا، بهدف إقامة «خلافة إسلامية» بالمعايير الإخوانية، أما مركز الخلافة فلم يتحدد حتى الآن. ورغم الاختلاف في الدين ومدينة الانطلاق، والعشرون عامًا الفاصلة بين مولد الحركتين (الصهيونية والإخوانية)، إلا أن كلتا الحركتين تنطلقان من كون كل منهما حركة سياسية تستغل دينًا بعينه، وتسعى لإقامة دولة دينية، بحسب مفهومها هي للدين، ولشعب اخترعته هي لا يربط بينه وبين بعض إلا الرابطة الدينية، وحتى هذا الشعب ينقسم إلى شريحتين، الأولى وهي العليا، وهي التي تؤمن بأفكار الحركة سواء كانت صهيونية أو إخوانية، والشريحة الدنيا، كما وصفها القيادي الإخواني، صبحي صالح، وتضم بقية أبناء الشعب المُخترع، سواء كان مسلمًا أو يهوديًا. والحقيقة أن كلتا الحركتين أدخلت مفاهيم سياسية جديدة على القاموس السياسي، فالقومية لم تعد مقتصرة على وطن بعينه، ولم تعد حتى تتعدى ذلك لتصبح قومية متعددة الجنسيات، وإنما أصبحت كل حركة منهما تؤمن وتروج ل«قومية فوق القوميات». فالدين بالنسبة للحركتين، سواء كان إسلامي أو يهودي، هو القومية الجامعة، ولا اعتراف بأي قوميات أخرى، فيكفي للشخص أن يكون مسلمًا أو يهوديًا، كي يكون ابنًا من أبناء الشعب، وإذا أراد أن يكون من سادة هذا الشعب فعليه أن يكون إخوانيًا أو صهيونيًا، ليكون من الشعب المُختار، صاحب الدولة والخلافة. لذا لم يكن غريبًا أن تعتبر الصهيونية يهود الفلاشا ويهود روسيا ويهود اليمن وغيرهم شعبًا واحدًا وقومية واحدة، ولا من الغريب أيضًا أن يقول المرشد المؤسس حسن البنا أنه «لا وطنية في الإسلام»، ولا أن يقول صاحب العباءة التكفيرية، سيد قطب، إن الوطن «حفنة تراب عفن»، ولا أن يقول المرشد السابق، مهدي عاكف: «طظ في مصر واللي في مصر»، ثم يضيف أنه لا يمانع أن يحكم مصر شخص ماليزي طالما كان مسلمًا. في سعيها لإقامة دولتها اليهودية المنشودة، استخدمت الحركة الصهيونية الدين لتشجيع الهجرة، والمال لإقامة المستوطنات، والسلاح لاحتلال الأرض وترويع الفلسطينيين، وسعت لدى الحكومات الغربية، وحتى الدولة العثمانية، لإقناعها بضرورة تأييد إقامة وطن لليهود في فلسطين. ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للحركة الإخوانية، التي استخدمت الدين لكسب تأييد جماهيري، والمال لابتزاز الفقراء وخوض المعارك الانتخابية وشراء الذمم، والسلاح لتصفية الخصوم السياسيين وترويع المواطنين، إضافة أيضًا إلى السعي طوال الوقت لدى الحكومات الغربية، سواء مع الاحتلال البريطاني الذي كان يحتل مصر، أو الولاياتالمتحدة، التي تواصلت معها المحادثات السرية لسنين طويلة، حتى أصبحت شبه علنية قبل الثورة، ثم علنية تمامًا بعد ثورة يناير، حتى باتت مفضوحة ومُدانة وتصل لحد الخيانة بعد 30 يونيو، حيث النداءات المتكررة لقيادات الجماعة للإدارة الأمريكية، طالبة منها التدخل في مصر لإعادة نظام الجماعة الذي أسقطته جماهير الشعب المصري. العمل من أجل إقامة دولتي الحركتين، الصهيونية والإخوانية، يتطلب سيكولوجية خاصة عملت قيادات الحركتين على تهيئة أعضائهما للتفكير والعيش وحتى القتل بها، منذ اللحظة الأولى لتأسيسها استدعت الحركة الصهيونية «الهولوكست» النازي، الذي راح ضحيته –ضمن من راح- عدد ليس بقليل من اليهود، رغم أن عدد ضحايا الحربين العالمية الثانية يصل إلى 50 مليونًا، ومن هذه النقطة وغيرها من النقاط في تاريخ طويل، كرست الحركة الصهيونية لدى أبنائها عقدة الاضطهاد، حيث يتعاملون وكأنهم شعب مُضطَهَد، ينبذه الجميع، ويضطهدونه ويقتلونه لمجرد أنه يهودي، إلى ما غير ذلك من الكثير من الأساطير وبعض الحقائق. نفس عقدة الاضطهاد التي زرعتها الحركة الصهيونية في نفوس أبنائها، زرعتها أيضًا الحركة الإخوانية في نفوس المنتمين إليها، كانوا هم أيضًا يختزلون التاريخ، فيتحدثون عن تعذيب المسلمين في مكة في بداية الدعوة المحمدية وكأنه قد حدث بالأمس، وأنه حدث لهم هم شخصيًا، حتى أصبح المنتمين للحركة يعيشون في وهم أن المسلم مُضطهد في كل مكان، وكأن العالم كله أصبح من كفار قريش. ثم ما لبست الحركة أن صورت حملة الاعتقالات التي تعرضت لها، ضمن العديد من القوى السياسية المصرية، وكأنها حرب على الإسلام، لا عقاب للإخوان من الرئيس عبد الناصر بسبب محاولتهم اغتياله والانقضاض على ثورة يوليو 1954، حتى أن الحركة وصفت الاعتقالات بأن «الإسلام هو الحبيس» وليس الإخوان، وهكذا كرست الحركة في نفوس أبنائها نفسية الإنسان المضطهد على مدار العصور بسبب دينه، وطالما أنه كان مضطهدًا فمن حقه الآن أن يحصل على دولة، تمامًا كما هو الصهيوني، الذي صور للعالم أنه مُضطهد حتى يظفر هو الآخر بدولته الصهيونية.