منذ عرفت ما عرفت عن الصهيونية، خصوصاً بعد هجرتي إلي بلاد الغرب، مهد الصهيونية الحديثة، فقد حلمت علي مدي سنوات وسنوات، أن أضع أمام القارئ العربي بعض الحقائق عن الصهيونية، وعن علاقتها بالحضارة الغربية، فمن بين آلاف الكتب والمخطوطات التي تعج بها المكتبات في العالم، بكل لغات أهل الأرض عن اليهود والصهيونية، ومن خلال الممارسة الميدانية بما يحل بالفلسطينيين والعرب، لم تكن المهمة سهلة لغربلة ما يمكن ان يقدم في كتاب واحد، خصوصاً ان الأحداث تتسارع بردود الأفعال والتفاعلات ولم تتوقف حتي الآن، لكنني حاولت، كان تحدياً ليس سهلا، ان أسهب فيه أو أن أوجز، وان أحشر قناعاتي كمواطن عربي أو أن أحافظ علي حياد الباحث عن الحقيقة. هكذا بدأ الكاتب الفلسطيني عبدالكريم الحسني كتابه «الصهيونية: الغرب والمقدس والسياسة» عارضاً وجهة نظر يتقاسمها الكاتب مع من يرون بأنه لابد من إعادة الأمور إلي نصابها بدلاً من التمادي في التيه والقفز إلي المجهول، لهذا تم إعداد الكتاب بطريقة يسهل معها التمتع بقراءته، فالكاتب أراده لكل الطبقات ولكل الفئات، لأجل أن يصبح للشارع العربي رأي عام مستنير، وأثر في قضية تعتبر أهم تحدي واجه الأمة العربية في العصر الحديث، فلقد أريد ان يكون هذا الكتاب لكل من يتحسس طريقه إلي المعرفة أينما كان موقعه في المجتمع، لأن من المرارة ان القضية الفلسطينية قد عولجت علي مدي ما يزيد علي اثنين وستين عاماً من قبل العرب والفلسطينيين بطريقة ليست لها علاقة بمعرفة ماهي الصهيونية، فالكثيرون لا يعرفون عن الصهيوية سوي الاسم، أو يستبدلونه أحياناً بكلمة «إسرائيل» دون ان يعرفوا ما الفرق بينهما. في البداية أوعز عبدالكريم الحسني نشأة النزاع بين العرب واليهود، بسبب الصدام التاريخي بين الحركتين القوميتين اللتين تأصلت جذور الكره بين أتباعهما، منذ ان ارتبط أبناء يهود أوروبا بالمشاريع الإمبريالية الرأسمالية، الحركة الصهيونية بما توفر لها من روافد الدعم من الحضارة الغربية، حيث الفكر العلماني الذي أدي إلي إنشاء الدولة القومية في أوروبا، والتفسير البروتستانتي الحرفي للعهد القديم، الذي وجدته الصهيونية كرافد آخر يضمن تحالف قطاع كبير من المسيحية مع فكرة الوطن القومي لليهود، حتي قبل وجود الحركة الصهيونية نفسها رسميا علي المسرح الأوروبي، فاتفق جميع هؤلاء علي ترحيل اليهود إلي فلسطين، وصار الهدف إخراج اليهود المكروهين من أوروبا وجعل فلسطين وطناً قومياً لهم. من ناحية أخري، كانت هناك حركة القومية العربية التي تضرب في عمق منطقة تلونت بالتراث العربي الإسلامي، عي مدي أكثر من ألف وخمسمائة عام، خضعت فيها فلسطين وغيرها للحكم الإسلامي، كما ان سكانها من العرب الكنعانيين وغيرهم كانوا دائماً موجودين فيها قبل قدوم العبرانيين من بلاد الرافدين وقبل وصول قوم موسي من مصر. الصهيونية من طرف، كانت تسعي لإقامة دولة لليهود، لكي يستطيعوا لأول مرة ان يقرروا مصيرهم منذ ما يزيد علي ألفي عام، فاستغلت مصالح الغرب الاستعماري الذي كان يسعي إلي مد نفوذه، واندفعت غير عابئة بما قد يحدث لسكان فلسطين من العرب بعد ان انهارت دولتهم الإسلامية، بانتهاء دولة بني العباس علي يد الأتراك العثمانيين، ثم ضعف الخلافة العثمانية، ثم ذوالها علي يد الغرب الاستعمري الذي وجد من الصهيونية حليفاً طبيعياً بسبب التقاء المصالح وضمان التبعية الصهيونية، لهذا تشجع الصهاينة وكونوا دولتهم وفقاً للنموذج الأوروبي، وبه ضمنوا المساندة الغربية الدائمة علي حساب العرب. ان الصراع العربي الصهيوني سيظل وسيبقي صراعاً حتي وان قال عنه البعض بانه قد تراجع إلي ان اضحي صراعاً فلسطينياً إسرائيلياً، أو راح يسقط إلي درك أسفل لكي يصبح صراعاً فلسطينياً بسبب سوء إدارة الأنظمة العربية لهذا الصراع،هذا أو بسب خلافات هذه الأنظمة بالإضافة إلي تفضيلها الحصول علي الأمان لحفظ كرسي الحكم بالانصياع إلي سماع نصائح الدول الأجنبية، التي تعتمد علي هذه الأنظمة لاستمرار وجودها، فمهما وصلت التسميات أو تسرب بعض اليأس لأسباب كثيرة لحظية أو لمدة طويلة، فإن الصراع العربي الصهيوني باق جمراً متوهجاً وان غطته طبقة ناعمة من الرماد الخفيف، وسيظل بركاناً غاضباً علي استعداد ان يثور ويقذف الحمم في أي زمن قادم، وقد رأينا ان النار لم تخمد منذ ان صار لليهود دولة في فلسطين. المشكلة اليهودية المشكلة اليهودية في أساسها نبعت بسبب الهجرة اليهودية من الشرق من روسيا وغيره إلي أوروبا الغربية، وبسبب بروز التناقضات بين الجاليات اليهودية وبين الناس في المجتمعات الأوروبية التي أصبح يعيش فيها المهاجرون الهيود، مما أدي إلي تعرض الجاليات اليهودية في دول مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها إلي عملية اضطهاد منظم، وهكذا وقع اليهود في الشرق وفي الغرب بين نارين، نار المذابح التي كانت تتم في روسيا وفي بولندا وغيرهما، ونار الاضطهاد العنصري في دول أوروبا الغربية، من هنا نشأت المشكلة اليهودية، وارتبطت في القرن التاسع عشر بمسألة أخري اسمها المسألة الشرقية، حيث ان المسألة الشرقية كانت تطلق علي دولة الخلافة العثمانية التي كانت تسمي في ذلك الحين «رجل أوروبا المريض» المسألة الشرقية بالنسبة للغرب الاستعماري كان المقصود منها كيف يمكن تقسيم تركة دولة الخلافة العثمانية، لأن رجل أوروبا المريض «تركيا» حتما سيموت، لهذا تصدرت المشكلة اليهودية مع المسألة الشرقية اهتمام الدول العظمي في ذلك الزمان. اليهودية دين يقول اليهود، ان اليهودية تقوم علي عقيدة توحيد الرب، وعقيدة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل شعب الله المختار، وعقيدة توريث الأرض «فلسطين» لإبراهيم ونسله من بني إسرائيل، وعقيدة المخلص المنتظر، ويقول فلاسفة اليهود وأحبارهم ان اليهود يؤمنون بأن الله واحد، وان العبادة تليق به و حده، وهو منزه عن التجسيد وأنه الأول والآخر، وأنه عالم بأحوال البشر، وأنه يجازي الذين يحفظون وصاياه، ويعاقب من يخالفها، وان هناك حياة بعد الموت، وان اليهود يؤمنون بشريعة موسي وأنها غير قابلة للنسخ، كما ان اليهود يؤمنون بعقيدة المخلص المنتظر، وأما الكتب المقدسة عند اليهود، كما يقول الدكتور محسن محمد صالح «كتاب المشروع الصهيوني والكيان الإسرائيلي» فهي العهد القديم «تناخ» ويتكون من 39 سفراً، والقسم الأول منها هو التوراة، وهو الأسفار الخمسة الأولي، والقسم الثاني هو أسفار الأنبياء، ويتكون من 21 سفراً، والقسم الثالث هو الصحف والكتب، ويعني بالحكم والأمثال والمزامير والأخبار التاريخية الخاصة باليهود بعد خراب الهيكل وبه 12 سفرا، وتنسب جميع هذه الأسفار إلي عزرا الكاتب عام 444 ق.م، أي بعد وفاة موسي عليه السلام بما يزيد علي 700 سنة. إذن اليهودية دين، لكنها حرفت كما يقول رجال الدين من غير اليهود، ولقد سميت باليهودية نسبة إلي يهود وهم أتباعها، ولقد سموا بهذا نسبة إلي يهوذا ابن يعقوب، الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل، الذي بعث فيهم النبي موسي -عليه السلام- ويقال إن العرب قلبوا الذال دالا في كلمة يهوذا، وقيل إن الاسم هو نسبة إلي الهود بمعني التوبة والرجوع إلي الله. اليهودية معتقد يختلف عن معظم المعتقدات والأديان، الدين اليهودي هو مجموعة من العقائد والشعائر والطقوس وقواعد السلوك والأخلاق، التي تراكمت وتبلورت ونضجت علي مدي آلاف السنين، لذا لكي يكون الإنسان يهودياً يجب ان يكون من أم يهودية، لقد ارتبطت كلمة يهودي في أذهان الناس بتصور خاص وصفات معينة خلال عصور التاريخ، إلا أن معتنقي الديانة اليهودية استطاعوا ان يحافظوا علي دينهم وعرقهم بطريقة فسرها المؤرخون بمعان كثيرة، كما حافظ اليهود علي لغتهم وديانتهم وتقاليدهم وسلوكهم المبني علي أنهم «شعب الله المختار»، وقد اختلف المؤرخون، شرقاً وغرباً، يهود وغير يهود، بخصوص الديانة اليهودية، إلا أنهم قد أجمعوا تقريباً علي أن العهد القديم «التوراة» قد جري وضعه خلال وبعد النفي إلي بابل، لكن العقيدة الصهيونية فيما بعد ظلت تقوم علي التنظيم القتالي. الصهيونية البروتستانتية كانت العصور الوسطي خصوصاً القرن الرابع عشر والخامس عشر عنيفة بالنسبة للمعتقد الديني وللطبقة العاملة وحيث بدأت تتشكل القوميات، لقد كان لتدخل السلطة الدينية في السياسة وتدخل السلطة الزمنية في الدين، أثر كبير فيما آلت إليه الأمور من ناحية قبول المجتمع للإصلاحات الدينية، بسبب حاجة الناس إلي نظام اقتصادي أكثر راحة من السلطة الدينية التي كانت قيودها تسبب الكثير من عدم الاستقرار في المجتماعات الأوروبية، لهذا فان كثيراً من الباحثين وأهل التنظير وحتي يومنا هذا، حائرون أو متسائلون.. هل الثورة البروتستانتية التي قادتها أفكار مارتن لوثر هي التي فرضت الاصلاحات الدينية أم أن التداعيات الاقتصادية هي التي خلقت ثورة البروتستانت علي الكنيسة الكاثوليكية! مهما كانت الإجابة عن هذا السؤال، فان البروتستانتية بلا شك هي التي حجمت سلطة الكنيسة في المجتمع، وأعطت فكراً تحررياً للأفراد وللاقتصاد بالتحديد للملكية الخاصة، وقد تكون البروتستانتية هي من جعلت المجتمع يخطو خطوة إلي الأمام، وجعلت عجلة الاقتصاد تدور دورتها الأولي، فإذا بالاقتصاد ممثلاً بانطلاق الثورة الصناعية يجعل البروتستانتية مرجعاً ومتكأ لحرية الفرد وانطلاقه في ميادين الإبداع. لقد كان لسكان القارة الأمريكية دور مهم في تقوية عضد الصهيونية، فمنذ ان وطأت أقدام الرجل الأوروبي الأبيض أراضي القارة الجديدة، راح يحتضن الأفكار الصهيونية، فكان لرجال الدين المسيحي في أمريكا فتاوي وادعاءات ليست أقل مما أتي به الطهريون في انجلترا، كلها بنيت علي أساس ان اليهود هم شعب الله المختار، وبميثاق الوعد الإلهي يرتبط اليهود بفلسطين والإيمان بعودة المسيح بقيام دولة اليهود لكي تبدأ الألفية. يستنتج من ذلك، ان ما أطلق عليه «الصهيونية المسيحية» ليس لها وجود في دائرة المنطق، فإذا كان قد استطاع من هم ربما أصلاً غير مسيحيين أو من خرجوا عن الكنيسة ان يشيعوا فتاوي ونبوءات، وان يأخذوا التفسير الحرفي للتوراة أو أن يستخدموا من قبل بعض اليهود الذين ساهموا كثيراً في هذا فإن الحقيقة هي غير ذلك، والدليل أنه لا توجد صهيونية مسيحية مثلاً في الشرق، وان الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية ليستا علي اتفاق مع الصهيونية. ان غلابية نشطاء الصهيونية الأوائل كانوا علمانيين لا يمتون لليهودية إلا بالأسماء والعرق من جهة أمهاتهم، ان الديانة اليهودية تحلل زواج المرأة اليهودية من غير اليهودي، وحيث ان اليهودي يعرف بأنه من ولد من أم يهودية، لذا نستطيع ان نتخيل ان معظم يهود العالم لا يمتون بصلة إلي يهود الكتاب المقدس، وحيث ان آباءهم بناء علي ما نري ليسوا يهودا، فإن من المفترض ان تكون لهم ثقافات تستند أساساً علي غير الديانة اليهودية أو ثقافة لا دينية، وهو ما يؤكد بأن الصهاينة الأوائل ومن بلوروا فكرتهم ووضعوها في قالب النبوءات لم يكونوا إلا من العلمانيين، وان تحدثوا بحماس عن الدين لبسطاء اليهود المتدينين، فانهم كانوا يهدفون إلي زيادة عدد المهاجرين اليهود إلي فلسطين حتي يكونوا ركيزة لهم في مشروعهم الاستعماري.