كان القرار الفلسطينى بالانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية صفعة قوية أصابت إسرائيل بحالة من عدم التوازن والارتباك.. وبعيدًا عن التهديدات الإسرائيلية، فمن الواضح أن المعركة الحقيقية مع الاحتلال قد بدأت وستكون أشد قسوة وعنفًا لأنها تضع المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال وجهًا لوجه. ولا شك أن التهديدات المجنونة التى يطلقها قادة إسرائيل ضد السلطة والمقاومة ومحاولة وصمتها بالإرهاب ماهى إلا انعكاس لحالة الارتباك والتخبط التى تعيشها إسرائيل. لقد أصبحت إسرائيل على يقين من خسارتها فى المحافل الدولية رغم كل مايمكن أن توفره واشنطن من دعم وحماية لها، وأن القضية الفلسطينية ستنتصر فى النهاية، وأن لعبة إسرائيل فى إضاعة الوقت عبر مفاوضات لاطائل منها قد انتهت وأصبحت مرفوضة فلسطينيًا وإقليميًا ودوليًا. فقد أثبتت كل تجارب المفاوضات منذ اتفاقية أوسلو أن التفاوض بين إسرائيل وفلسطين ليس سوى لعبة لإضاعة الوقت، فإسرائيل لم تؤمن يومًا بحق فلسطين فى أن تصبح دولة مستقلة، فخلال ربع قرن ظلت إسرائيل تقتل الفلسطينيين وتهدم منازلهم، واحتلت مزيدًا من أراضيهم وزادت من توسعها الاستيطانى، وأعلنت صراحة أنها لا تؤمن بدولة فلسطين المستقلة. ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو، ادعت الولاياتالمتحدة قدرتها على القيام بدور «الوسيط النزيه» فى عملية السلام، ولكن الإدارات المتعاقبة غضت الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين. والنتيجة أننا لا نرى أى سلام فى حين تضاعف عدد المستوطنين فى الأراضى المحتلة ثلاث مرات وأصبحت القيادة الفلسطينية أمام وضع صعب ما جعلها تقدم القرار إلى الأممالمتحدة، ولكن الولاياتالمتحدة برفضها مشروع القرار عززت من تعنت الإسرائيليين، إن سلوك الولاياتالمتحدة خلال العقود الماضية أوضح عدم قدرتها على إدارة ملف «عملية السلام» وهناك شكوك ومخاوف من عدم قدرتها على تأكيد التمسك بإطار القانون الدولى الذى تدعى تعلقها به. ففى 17 ديسمبر الماضى قدم الأردن إلى مجلس الأمن الدولى قرارًا أقرته الجامعة العربية يعيد تأكيد حق الفلسطينيين فى تقرير المصير، ودعا إلى تجديد المفاوضات الهادفة إلى إبرام حل الدولتين وإنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى وتأكيد الحاجة للتوصل إلى حل سلمى شامل ينهى الاحتلال الإسرائيلى الذى بدأ عام 1967 ويحقق رؤية دولتين مستقلتين تتمتعان بالديمقراطية، إسرائيل ودولة فلسطين ذات السيادة. وكما هو متوقع صوتت الولاياتالمتحدة ضد القرار ورغم كل التعديلات التى أجرتها السلطة الفلسطينية على الطلب المقدم لمجلس الأمن والتى أثارت حفيظة بعض الفصائل، فإن الولاياتالمتحدة أصرت على موقفها الذى عبر عنه جون كيرى بشكل صريح. وكأن ثلاثة وأربعين «فيتو» خلال عدة عقود كانت مكرسة لحماية تل أبيب والدفاع عن جرائمها، وبلغ الانحياز حدًا دفع الرئيس أوباما إلى القول إن أمن الدولة العبرية هو أمن بلاده! الجنائية الدولية كرد فعل طبيعى على رفض القرار فى مجلس الأمن، قال كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات إن السلطة كانت تعلم أن المشروع لن يمر، وأكد أن فلسطين ستكون عضوًا فى المواثيق والمعاهدات الدولية التى سلمت لممثل الأمين العام للأمم المتحدة كاشفًا عن أن فلسطين ستكون عضواً كامل العضوية فى الجنائية الدولية مطلع مارس المقبل. إضافة لتسعة عشر اتفاقية دولية أخرى وقعها الرئيس الفلسطينى محمود عباس وسلمت كلها للأمين العام للأمم المتحدة السبت الماضى. وكان مسئول كبير فى الخارجية الأمريكية قد أوضح أن تسليم الفلسطينيين وثائق الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية سيؤثر على المساعدات الأمريكية للسلطة. وأضاف المسئول: «ليست مفاجأة أنه ستكون هناك تداعيات لهذه الخطوة لكننا نواصل المراجعة». وتنص إجراءات الإنضمام الكامل إلى معاهدة روما على أن الأمين العام بان كى مون يجب أن ينتظر 60 يومًا قبل أن يعلن انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهذا أمر إجرائى لا أكثر ولا يمكن لإسرائيل أو الولاياتالمتحدة وقف هذا الانضمام، وستصبح فلسطين الدولة العضو رقم 123 فى المحكمة الجنائية. وتجدر الإشارة إلى أن الفلسطينيين بتحديدهم تاريخ يونيو 2014 لبدء التحقيقات، فإنهم يريدون من المحكمة الجنائية أن تحقق فى الجرائم التى ارتكبت فى حرب غزة والأهم التحقيق فى نشاطات الاستيطان التى تعتبر جرائم حرب فى الأعراف والقوانين الدولية من قبل السلطات المحتلة. جدير بالذكر أن واشنطن تقدم نحو 400 مليون دولار مساعدات اقتصادية للفلسطينيين كل عام، وبموجب القانون الأمريكى ستقطع تلك المساعدات إذا استخدم الفلسطينيون عضوية المحكمة الجنائية لرفع دعاوى على إسرائيل. عقوبات إسرائيلية لا يبدى المسئولون الفلسطينيون أى قلق من قرار إسرائيل فرض عقوبات على السلطة، أو حتى تهديد الولاياتالمتحدة بقطع المساعدات. ويعترف المسئولون بأن إسرائيل صادرت غالبية صلاحيات السلطة فى السنوات الأخيرة، ولم يتبق منها سوى الالتزامات وبخاصة الرواتب والتنسيق الأمنى. ووصف صائب عريقات قرار إسرائيل عدم تحويل أكثر من مائة مليون يورو من الضرائب المحصلة لحساب السلطة بأنه «جريمة حرب». وأضاف «بعد تجميد مستحقاتنا فإنه لا يمكننا دفع الرواتب ولن نستطيع إدارة المدارس». ونقلت صحيفة «هآرتس» عن مسئول إسرائيلى كبير قوله إن تعليق الأموال المستحقة للسلطة هو خطوة أولى من مجموعة خطوات يتوقع أن تقرها الحكومة. وألمح إلى أن إسرائيل هى التى طالبت الولاياتالمتحدة بوقف مساعداتها المالية إلى السلطة، وأضاف أن إسرائيل أو منظمات مؤيدة لها قد تقوم بتقديم دعاوى قضائية ضد شخصيات فلسطينية بداعى ارتكاب جرائم حرب. وأعلن وكيل وزارة الخارجية نسيم بن شيتريت أن إسرائيل ستنتقل قريبًا من الدفاع إلى الهجوم، لكنها لن تمس بالتعاون الأمنى مع الفلسطينيين أو تقود نحو تفكيك السلطة. بينما أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن الخطوات أحادية الجانب التى تتخذها السلطة الفلسطينية فى الأممالمتحدة ستعرض قادتها لإجراءات قضائية بسبب تأييدهم لحركة حماس. عودة للمجلس من جهة أخرى قال الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبوردينة إن القيادة الفلسطينية قررت التوجه مجددًا إلى مجلس الأمن لطرح مشروع قرارها الذى يطلب إنهاء الاحتلال الإسرائيلى. ويبدو أن الفلسطينيين قرروا طرح مشروع القرارا مجددًا بعد انضمام خمس دول جديدة إلى المجلس البالغ عدد أعضائه 15 دولة، بينها خمس دائمة العضوية. وكان مشروع قرار فلسطين قد فشل فى الحصول على الأصوات التسعة اللازمة لاعتماده فى مجلس الأمن بعد أن تراجعت نيجيريا عن تأييده بفعل ضغط أمريكى وإسرائيلى، ودعا مشروع القرار إلى العمل على تسوية مع إسرائيل خلال سنة على أن يتم الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى الفلسطينية بحلول نهاية عام 2017. ومن جهته أكد عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» عزام الأحمد أن السلطة لن تستجيب لأية محاولة من أجل تمديد المفاوضات مع إسرائيل، مالم يكن هناك وضوح كامل فى كل ما يخص العملية السياسية، ومالم يكن هناك التزام إسرائيلى وامريكى بقرارات الشرعية الدولية لجهة حل الدولتين على حدود الرابع من يونيو 1967. ماذا بعد؟ لم يكن يتوقع أحد أن يمرر مجلس الأمن مشروع القرار الفلسطينى لإنهاء الاحتلال مع وجود الفيتو الأمريكى المشهر دومًا فى وجه العرب عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فالولاياتالمتحدة تريد أن تبقى مهيمنة على القضية الفلسطينية إلى حين استكمال مشروع التهويد والاستيطان. الولاياتالمتحدة تبحث عن وسيلة لإحباط جهود السلطة الانضمام إلى المنظمات الدولية وبخاصة المحكمة الجنائية الدولية التى بإمكانها أن تسوق قادة الكيان الصهيونى إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. الولاياتالمتحدة لا تدرك أن الشعب الفلسطينى ليس لديه ما يخسره بعد أن جرّب كل الوسائل الدبلوماسية للحصول على الحد الأدنى من حقوقه المشروعة وفشل، فيبقى خيار المقاومة بكل أشكالها، وتصبح المصالحة الفلسطينية ضرورة مصير، حتى تتوحد المقاومة، فكل المواثيق والقوانين الدولية تؤكد حق الشعوب المحتلة فى مقاومة محتليها.