تجمعت أسباب عديدة لشهرة هذا الفارس العربى الشهير.. حتى اختلطت الحقيقة بالخيال وتحولت سيرة حياته إلى أسطورة شعبية يحكيها الرواة والمداحون كما فعلوا مع الزير سالم وأبو زيد الهلالى وسيف بن ذى يزن. فقد كانت أمه حبشية «زبيبة» أسرت فى إحدى المعارك وتكفلها فارس قبيلة بنى عبس شداد وأعجب بها واتخذها حليلة له، فأنجبت منه طفلًا أسود لم يعترف أبوه به.. إنما كلفوه برعاية الإبل والأغنام والجياد. ولكنه تمرد على وضعه.. وتعلم ركوب الخيل والكر والفر والضرب بالرمح والنزال بالسيف، ثم اختلط بابنة عمه مالك «عبلة» فأحبها وأحبته ولم يعترف القوم بهذا الحب المخالف للتقاليد العربية فى ذلك الوقت. وعندما شب عن الطوق وأصبح يجيد فنون الحرب والقتال تصادف أن تعرضت قبيلته لغزو من قبيلة أخرى «طىء» وهزمتهم وكادت تسلبها مالها وتأسر نساءها وهو يشاهد ما يحدث ولا يحرك ساكنًا، فقال له أبوه:(كرّ يا عنتر! فأجابه: العبد لا يُحسن الكر، إنما يُحسن الحلب والدر، فقال له أبوه: كرّ وأنت حر!، فهجم عنتر على الأعداء كأنه وحش كاسر.. وقاتل قتالا حسنًا أسفر عن هزيمة الأعداء، واعترف أبوه بنسبه وعدته القبيلة فارسها وحاميها. وتجدر الإشارة إلى أن عنترة كان فارس بنى عبس وهى أحد فروع القبيلة الأم غطفان.. والتى كان منها أعلام الشعر العربى الجاهلى مثل النابغة الذبيانى وزهير بن أبى سلمى والحطيئة وغيرهم.. وكلهم شهدوا الحرب بين القبيلتين الشقيقتين عبس وذبيان بسبب سباق الفرسين داحس والغبراء.. والتى كان من نجومها أيضًا قيس بن زهير والربيع بن زياد والشاعر المعروف عروة بن الورد. ولكن عنترة تفوق عليهم جميعًا فى الشهرة بسبب الأصل واللون وقصة حبه لعبلة.. وأخيرًا تفجرت شاعريته بعد أن عيّره رجل من القبيلة بسواده وعبودية أمه وأنه لا يقول الشعر! ولم يخجل عنتره من لونه ولا نسبه.. مؤكدًا: ما ساءنى لونى واسم زبيبة إن قصرت عن همتى أعدائى فلئن بقيت لأصنعن عجائبًا ولأبكمن بلاغة الفصحاء بل كان يفخر بسواده وترفعه عن الدنية وبعده عن ارتكاب الفواحش: فإن أك أسود فالمسك لونى ومالسواد جلدى من دواء ولكن تبعد الفحشاء عنى كبعد الأرض من جو السماء كما كان عزيز النفس، لا يتحمل الهوان ولا يقبله، كما أنه كان يفضل ماء الحياة برغم مرارته عن شربه كأسًا صافيًا بذلّة ومهانة: لا تسقنى ماء الحياة بذلّة بل فاسقنى بالعز كأس الحنظل ماء الحياة بذلّة.. كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل وكان أيضًا صاحب خلق عربى كريم.. يحفظ الجوار ويرعى الحرمات.. ولا يدخل البيوت إلا من أبوابها وفى وجود أربابها: أغشى فتاة الحى عند حليلها وإذا غزا فى الجيش لا أغشاها وأغض طرفى ما بدت لى جارتى حتى يوارى جارتى مأواها هذا هو عنتر الإنسان صاحب القيم العربية الأصيلة، أما عنتر الفارس.. فشهرته فاقت أمرؤ القيس وأبى فراس الحمدانى وغيرهما، فقد كانت أفعاله فى الحرب تغنيه عن انتسابه لأعمام أو أخوال: إنى أمرؤ من خير عبس منصبا شطرى وأحمى سائرى بالمنصل وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت ألفيت خيرًا من معمَّ مخول والخيل تعلم والفوارس أننى فرقت جمعهمو بطعنة فيصل واقرأ معى جزءًا من معلقته الشعرية الشهيرة وهو يصف حاله فى الحرب وكيف كانت الرماح فى صدر فرسه كالحبال الطويلة.. حتى إن فرسه اشتكى له من ذلك وكاد يتكلم ليعفيه مما هو فيه، ولكن الفوارس كانت تطالبه بالإقدام والهجوم على الأعداء.. وهو ما كان يسعده ويشفى نفسه: لما رأيت القوم أقبل جمعهم يتذامرون كررت غير مذمم يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر فى لبان الأدهم مازلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمحم لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمى ولقد شفى نفسى وأذهب سقمها قيل الفوارس: ويك عنتر أقدم وأحيانًا ما كان يرى فارسًا مدججًا بالسلاح يخشى الفوارس مجابهته.. لأنه لا يهرب ولا يستسلم.. فيطعنه عنتر برمحه الصلب فيشق ثيابه ويصرعه ويتركه طعامًا للسباع: ومدجج كره الكماة نزاله لا ممعن هربا ولا مستسلم جادت له كفى بعاجل طعنة بمثقف صلب الكعوب مقوم فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم فتركته جزر السباع ينشنه يقضمن حسن بنانه والمعصم *** وإلى الأسبوع القادم مع عنتر العاشق والشاعر.