على امتداد أشهر الصيف الماضى وفى كل يوم سبت، كانت سوزان رايس، المستشارة الأمريكية للأمن القومى تجتمع مع ستة من مستشاريها فى مكتبها الجانبى بالبيت الأبيض لكى تبلور السياسة المستقبلية للإدارة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وكان من المحتم أن تؤدى عملية مراجعة السياسات هذه بالولاياتالمتحدة إلى توجهات جديدة فى المنطقة، وهو ما ظهرت نتائجه بالفعل عن طريق الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر الماضى التى أعلن فيها أن الولاياتالمتحدة سوف تركز جهودها فى المفاوضات الخاصة بالمشروع النووى الإيرانى وفى دفع عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين وفى وقف المذابح التى تجرى فى سوريا. رايس التى عملت فى السابق كسفير للولايات المتحدة لدى الأممالمتحدة وتولت منصبها الحالى كمستشارة للأمن القومى فى أول يوليو الماضى قالت فى مقابلة لها مع شبكة تليفزيون سى. إن. إن بإن ما يهدف إليه الرئيس هو الابتعاد عن الأحداث التى (تبتلع) سياسته الخارجية مثلما حدث مع رؤساء سابقين. وأضاف:(لا يمكن أن تؤكل 24 ساعة يوميًا ولسبعة أيام فى الأسبوع بواسطة منطقة واحدة مهما بلغت أهمية هذه المنطقة، ولقد رأى الرئيس أن الوقت مناسب لاتخاذ خطوة إلى الوراء وإعادة تقييم الطريقة التى نمسك بها بالمنطقة). وثمة سيدة أمريكية أخرى هى كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية السابقة قالت فى إشارة منها إلى العلاقة بين طهران وواشنطن (ليس لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية أعداء دائمون أو أصدقاء دائمون ولكن لديها مصالح دائمة). لذلك، لم تكن الانفراجة فى العلاقات الأمريكيةالإيرانية مفاجئة كما لم تكن عودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران ولندن دون أية مقدمات حدثًا مفاجئًا. خاصة إذا ما عرفنا أن مفاوضات جنيف التى تمخض عنها الاتفاق المرحلى مع إيران ووفقًا لما نشر من معلومات هو ثمرة اتصالات سرية مباشرة كانت تجرى بين إيران والإدارة الأمريكية وبدأت فى عُمان قبل ستة أشهر، أى فى عهد أحمدى نجاد واستكملت فى عهد الرئيس الجديد حسن روحانى، وبما أن المفاوضات كانت سرية فمن المنطقى ألا تقتصر فقط على الموضوع النووى، بل من المفترض أن تشمل العديد من الملفات التى تتشابك أو تتعارض فيها المصالح الأمريكيةالإيرانية مثل أفغانستان والعراق ودول الخليج وسوريا.. ومن المؤكد أن الأيام القادمة سوف تكشف معالم هذه التفاهمات الثنائية بين أمريكاوإيران، ومن المؤكد أيضا أن تداعيات هذه التفاهمات سوف تتكشف فيما يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط. وفى هذا السياق نتذكر الزيارة التاريخية التى قام بها أحمدى نجاد للعراق منذ عدة سنوات وكانت القوات الأمريكية هى الحامية لأمنه والراعية لزيارته! تقسيمات على الخريطة! لكن الشىء المستغرب أن تقوم صحيفة ال «نيويورك تايمز» الأمريكية مؤخرًا بنشر خريطة جديدة للشرق الأوسط تقسم سورية والسعودية وليبيا والعراق واليمن إلى 14 دولة. فقد نشرت الصحيفة خريطة تظهر تقسيم الدول الخمس إلى 14 دولة مشيرة إلى أن خريطة الشرق الأوسط الحديث الذى يعد المحور السياسى والاقتصادى فى النظام الدولى أصبحت فى حالة يرثى لها. وركز التقسيم الذى قدمه المحلل روبرت رايت، على سوريا حيث إن الحرب المدمرة هناك تشكل نقطة تحول. ومن هنا قسمها إلى 3 دويلات وهى الدولة العلوية التى تتكون من أقلية سيطرت على سوريا لعقود وتسيطر على الممر الساحلى، ثم كردستان السورية التى يمكنها الانفصال والاندماج مع أكراد العراق فى نهاية المطاف، ثم الدولة السنية التى يمكنها الانفصال أيضا ومن ثم الاتحاد مع المحافظات العراقية. وسلطت الصحيفة الأمريكية الضوء على المملكة العربية السعودية بوصفها ثانى الدول التى يمكن تقسيمها إلى 5 دويلات: «وهابستان» فى الوسط، وأخرى فى الغرب تضم مكة والمدينة وجدة، ودويلة فى الجنوب، وأخرى فى الشرق مع الدمام، وإلى جانب دويلة أخرى فى الشمال، بما يرجحّ أن يصبح اليمن بأكمله أو جنوبه على الأقل جزاءًا من السعودية، التى تعتمد تجارتها بالكامل تقريبًا على البحر،وإيجاد منفذ لها على بحر العرب من شأنه أن يقلل الاعتماد الكامل على مضيق هرمز، الذى تخشى السعودية من قدرة إيران على الاستيلاء عليه وحرمان دول الخليج من عبوره. أما ثالث هذه الدول فهى ليبيا التى قسّمتها الصحيفة الأمريكية إلى دويلتين هما طرابلس وبرقة، ومن الممكن أن تصبح ثلاثة بانضمام دولة فزان فى الجنوب الغربى، وذلك نتيجة النزعات القبلية والإقليمية القوية. كما أوضحت الصحيفة أن العراق تظهر كرابع الدول التى تم تقسيمها، ومن الممكن أن ينضم أكراد الشمال إلى أكراد سوريا، وينضم العديد من المناطق المركزية التى تسيطر عليها السنّة إلى السنّة فى سوريا، ويصبح الجنوب خاصًا بالشيعة. أما الدولة الأخيرة فهى اليمن، وقسّمها المحلل الأمريكى رايت إلى دويلتين وذلك بعد اجراء استفتاء محتمل فى جنوب اليمن على الاستقلال. ومن الممكن أن يصبح جزء أو جنوب اليمن جزءًا من السعودية. ورأى رايت أن التفتت وسلسلة الانقسامات الناجمة عن النزاعات والخلافات الإثنية والطائفية سيعيد رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد فى صورة أكثر مأساوية منذ معاهدة سايكس بيكو فى عام 1916. وتوقع رايت أن تبقى الأردن ومصر وإسرائيل كما هى، فى الوقت الذى لم يذكر فيه شيئًا بخصوص قيام دولة فلسطينية مستقبلاً بمنطقة الشرق الأوسط. أسئلة تبحث عن إجابة والآن، وبعد توصل إيران والدول الكبرى إلى الاتفاق المرحلى لستة أشهر والذى تتعهد إيران بموجبه بوقف برنامجها النووى مع رقابة دولية لمنشآتها. وفى المقابل يتم رفع جزء من العقوبات الاقتصادية التى خنقت الاقتصاد الإيرانى وأصبح على شفا الانهيار، فإن كل طرف يستطيع أن يدّعى أنه انتصر وأن الاتفاق فى صالحه، وذلك من خلال تركيزه على الجوانب الإيجابية وإخفاء ما عجز عن تحقيقه. فإيران تستطيع أن تقول إنها نجحت فى كسر الحصار ولم تتخل عن برنامجها النووى.. جمدته لفترة مؤقتة فقط، وأمريكا ومن معها من الدول الكبرى تستطيع أن تدّعى أنها نجحت فى مفاوضات جنيف ولجمّت المشروع النووى الإيرانى ومنعت إيران من إمكانية الاستمرار فى تصنيع القنبلة النووية. ومن السابق لأوانه فهم عمق التغيير الذى سيتمخض عن التقارب الأمريكى الإيرانى فى المرحلة المقبلة. لكن الشىء المؤكد أن هناك تداعيات ذات تأثير بالغ الأهمية سوف تحدث فى الأشهر القادمة وهناك الكثير من الأسئلة التى طرحها الوزير الفلسطينى سفيان أبوزيدة تنتظر إجاباتها فى المستقبل: أولا: كيف ستتصرف إسرائيل مع الملف الإيرانى فى المرحلة المقبلة فى ظل الفشل الذريع لسياسة نيتانياهو فى هذا الملف؟ وهل أبقى هذا الاتفاق أى مال أمام إسرائيل للتصرف لوحدها فى هذا الملف؟ بمعنى هل الخيار العسكرى أصبح أقرب أم أكثر صعوبة؟ هناك وجهات نظر إسرائيلية متباينة حول هذا الأمر رغم أن الاعتقاد السائد هو أن هذا الخيار غير ممكن فى المرحلة الحالية، لأن مشكلة إسرائيل سوف تكون مع كل العالم وليس فقط مع إيران. ثانيًا: كيف سينعكس هذا الاتفاق على العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، فى ضوء ما مارسه نيتانياهو من تشويش على الرئيس أوباما والإدارة الأمريكية؟ هل يستسلم نيتانياهو للواقع خلال الأشهر الستة القادمة، فى انتظار أن يفشل الاتفاق النهائى. أم يستمر فى انتقاده العلنى وتقديم ذلك بوصفه كارثة على إسرائيل؟ ثالثًا: كيف سينعكس هذا الاتفاق على المسار الفلسطينى الإسرائيلى؟ وهل أمريكا وفقًا لنهجها الجديد سيتراجع اهتمامها فى هذا الملف الذى لا أمل فى نجاحه على الأقل فى هذه المرحلة. أم أنها سوف تعتبر تهدئة الجبهة مع إيران دافعًا لتفعيل دورها بشكل أكبر مما هو عليه الآن؟. رابعًا: هل هناك تغيير فى السياسة الاستراتيجية الإيرانية ليس فقط فيما يتعلق بطموحها للحصول على سلاح نووى والاكتفاء بتطوير قدراتها النووية للأغراض السلمية؟، هل الاتفاق بداية لعهد جديد من الانفتاح والاعتدال فى التعاطى مع العديد من الملفات، أم أن التيار المتشدد فى إيران هو الذى سيقرر؟. وأن ما حدث من اتفاق هو مجرد تكتيك لتخفيف الحصار الاقتصادى. على أية حال، فإن الأسابيع والأشهر القادمة سوف تعطينا الإجابة بخصوص تداعيات هذا الاتفاق وعمق تأثيره على التحالف فى المنطقة، وكذلك انعكاسه على القضية الفلسطينية التى بلاشك سوف تتأثر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من هذه التطورات.