تحدثت إلى مسئول كبير يجمع بين صفتى القضاء والسياسة حول أزمة القضاء الحالية.. فأكد الرجل الناجح تنفيذياً وسياسياً أن هذه الأزمة تحتاج إلى حل سياسى وإلى تدخل الرئيس مرسى شخصياً حتى يمكن تجاوزها والتقدم خطوات حيوية نحو بناء الوطن.. هذا القاضى السياسى قدم نموذجاً رائعاً ورائداً فى الإقليم الذى يديره ببراعة وهدوء وحنكة رغم أنه لم يزره إلا عندما تولى منصبه.. ولكنه أبدع وأجاد ونجح فى تكوين فريق عمل من الشباب الصاعد الواعد.. إضافة إلى الخبرات الكبيرة ذات التاريخ المميز. وعندما نتعمق فى أزمة القضاء الحالية نكتشف أنها متعددة الجوانب متشعبة الأبعاد.. يختلط فيها السياسى بالقضائى والشخصى بالعام والتاريخى بالمعاصر.. كما أن كل أطراف الأزمة ارتكبت أخطاء كان يمكن تجاوزها وتجنيب البلاد والعباد آثارها السيئة.. بل والخطيرة. وحتى نكون منصفين لنبدأ بتقييم أخطاء التيارات الإسلامية.. خاصة التى دعت إلى مظاهرات الجمعة قبل الماضى تحت مسمى «تطهير القضاء». فتلك المظاهرات لم تكن مطلوبة ولا مرغوبة من حيث المبدأ.. لماذا؟ لأننا نسعى للهدوء والاستقرار.. ومن مصلحة الحزب الحاكم أو صاحب الأغلبية أن يسير فى هذا الاتجاه.. بل ويؤكده ويرسخه.. لذا لم يكن منطقياً اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب بينما نطالب المعارضة وكافة التيارات بالهدوء والاستقرار من أجل مصلحة مصر.. إضافة إلى ذلك فإن أطرافاً كثيرة (متأهبة ومتحفزة) لإشعال نار الفتنة فوراً.. وهنا من يمول ويخطط وينفذ. لذا لم يكن مستغرباً أو مستبعداً أن تنشب المواجهات أثناء المظاهرات التى تطالب بتطهير القضاء. ومرة أخرى- وربما ليست الأخيرة- ساهم إعلام الفتنة فى استغلال الحدث وتضخيمه وتصويره على أنه اعتداء وعدوان على القضاء.. رغم انتهاء المظاهرات فور بدء المواجهات.. عند الخامسة مساء الجمعة قبل الماضى. هذا هو الخطأ الأول للتيارات الإسلامية التى دعت لمليونية تطهير القضاء.. بينما نحن بحاجة إلى مليونية العمل والإنتاج.. فكفانا تعطيلاً لمصالح العباد والبلاد التى تكاد تنزلق نحو هوة سحيقة وخطيرة لذا فإننا نسجل تأييدنا لإلغاء الجولة الثانية من المظاهرات المطالبة بتطهير القضاء يوم أمس الجمعة. فهذا هو المطلوب من كل الاطراف. الخطأ الثانى للأحزاب الإسلامية هو عدم التشاور مع مؤسسة القضاء قبل عرض القانون وليس بعده.. فهؤلاء هم أصحاب الشأن وأهل القضاء أدرى بشعابه ودقائقه وخفاياه.. بل إننا كنا نتوقع أن تتم دعوتهم إلى المبادرة بعرض رؤيتهم وتصورهم للقانون.. انطلاقاً من تقييم الأوضاع القضائية على مدى العقود الماضية. ولو جرت الأمور بهذه الطريقة لتفادينا الكثير من المشاكل.. بل إنه سيكون نموذجاً يُحتذى به لمعالجة كل قضايانا ومشاكلنا عندما ننطلق من القواعد والجموع المختصة بكل مسألة.. وعندما نتشاور فيما بيننا.. فهذا هو المفهوم الدقيق للشورى (وأمرهم شورى بينهم). الخطأ الثالث الذى ارتكبته الأحزاب الإسلامية - وأيضاً المعارضة قبلها- هو لغة التصعيد والتهديد والوعيد المتبادل واستخدام كافة الوسائل الإعلامية (مطبوعة وإلكترونية وفضائية) فى تأجيج الموقف وزيادته التهاباً واشتعالاً. وكلنا يتذكر الآية الكريمة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)وأيضاً النص القرآنى الكريم ( وجدلهم بالتى هى أحسن ) صدق الله العظيم. *** نعم نحن نريد أن نتحاور بالحسنى وبالكلمة الطيبة وبالمشورة المخلصة الصادقة.. لا أن نتشاجر أو نتصادم. بل إن القوى الإسلامية تتحمل مسئولية عقائدية تلزمها بتقديم النموذج والقدوة للجميع على مستوى التعامل الشخصى والإنسانى قبل التعامل الرسمى والسياسى وصحيح أن الأحزاب والتيارات الإسلامية تعرضت لهجمات عنيفة وحملات تشويه منظمة ومبرمجة على مدى عقود.. خاصة خلال الشهور والأيام الأخيرة.. ولكن لديها من الحكمة والحنكة والجلد ما يمكنها من الصبر والهدوء واحتواء كافة المواقف.. حتى تصل مصر إلى بر الأمان فهذه مسئوليتنا جميعاً.. *** على الجانب القضائى نلاحظ بعض الأخطاء.. وكلنا بشر.. ولا معصوم سوى الأنبياء، وقد لاحظنا انقسام الصف القضائى عامة إلى ثلاثة تيارات: ? تيار موالٍ للإسلاميين ويؤكد انتماءه لهم بوضوح وصراحة.. على مدى عقود.. وليس خلال الأحداث الأخيرة وحدها. ? تيار الاستقلال الذى يحاول أن يقف فى موقع وسط بين التيارين السابقين. ونلاحظ أنه بدأ ينكمش فى غمرة الأحداث الأخيرة.. ?تيار الفلول الموالى للنظام السابق والذى تحالف معه على مدى عقود.. هذا التقسيم لم يضر القضاء فقط بل انعكس سلباً على الشعب المصرى إجمالاً.. حتى فى تناول وتداول القضايا المختلفة. وليس من مصلحتنا انشقاق القضاء أو شق صفوفه.. بل إن وحدة القلوب وتفاهم العقول مطلوبان الآن وبإلحاح شديد. أيضاً من أخطاء بعض القضاة الاستقواء بالخارج وإعلان اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية.. هذه الدعوة مرفوضة بكل المقاييس. فالحرص على استقلال الوطن وفدائه بالروح والدم فريضة علينا جميعاً.. لا أن ندعو جهات أجنبية أو نلجأ إليها لمعالجة شئوننا الداخلية. ونحن نعتقد أن مصر قد تجاوزت مرحلة التحرر من الاستعمار.. وليس منطقياً أو مقبولاً أن يوجد بيننا من يريد عودة الوجه المشئوم للاستعمار. هذا خطأ استراتيجى يجب العدول والاعتذار عنه ولعلنا نتذكر كيف تم إطلاق سراح الأجانب المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى للجمعيات الأهلية المصرية.. ولا نريد إعادة نبش الماضى واسترجاع آلامه ومواجعه! ومن أبرز أخطاء بعض القضاة الانغماس فى عالم السياسة بكل قوة.. بل ودخول ساحة الصراع السياسى المفتوح والمكشوف. وقد لاحظنا ذلك منذ سنوات..ولكنه تزايد خلال الشهور الأخيرة.. وانقسم القضاة حسب انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية. بل إن بعضهم أدلى بتصريحات لوسائل الإعلام محلية وإقليمية ودولية ودخلوا فى مواجهات حادة فيما بينهم.. ومع التيارات السياسية المختلفة.. فاختلط الحابل بالنابل والثوار بالفلول واليمينيون باليساريين!! *** ولعل ما يعنينا هنا هو الخروج من هذا المأزق وبدء مرحلة جديدة من الوفاق والتفاهم من أجل مصلحة مصر وقضائها وتياراتها السياسية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال (مؤتمر العدالة) الذى اقترحه مجلس القضاء الأعلى خلال لقائه بالرئيس مرسى مؤخراً ولعل هذه الدعوة جاءت متأخرة ولكنها مطلوبة الآن.. وبإلحاح شديد.. وبسرعة أيضاً. كما أن عنوان «مؤتمر العدالة» يعبر بدقة عن الهدف.. فليس المطلوب بحث جانب واحد من أبعاد المشكلة (القضاة) ولكن بحث مشاكل وهموم العدالة بكافة جوانبها بدءاً من المواطن المطحون الغلبان الذى يعانى الأمرّين فى المحاكم نتيجة عدم فعالية آليات التقاضى وتقادم التشريعات والقوانين المطلوب تغييرها بسرعة.. مروراً بمشاكل القضاة أنفسهم ووضع نظام دقيق وعادل يضمن حقوقهم كما يحدد التزاماتهم بوضوح شديد.. وانتهاءً بقضية الفصل بين السلطات واحترام كل سلطة لحدودها والالتزام بواجباتها. وربما تسمح مبادرة الرئيس ولقائه مجلس القضاء الأعلى بفتح باب الحوار لحل الأزمة والتفكير والعمل الجاد لإيجاد حلول لها. وهنا ندعو الجميع للالتزام بمبادئ العدل والمساواة فليس من المنطقى أن أطالب طرفاً بالعدل والمساواة بينما لا أطبق هذه المبادئ والقيم الإنسانية والقانونية والدستورية. إن حكمة القاضى وحنكة السياسى وفكر الإعلاميين والأكاديميين تقتضى منا جميعاً أن ندرك خطورة المرحلة التى نعيشها وأن نتكاتف معاً لعبورها. فالمصالح العليا للبلاد مهددة فعلاً.. ولن يرحمنا الشعب ولا التاريخ ولا رب العباد. إذا أصاب مصر مكروهاً.. لا قدر الله.