أهل بورسعيد كانوا ينتظرون من الرئيس أن يتحدث إليهم مباشرة حديثاً صريحاً من القلب إلى القلب.. يلمس لُب المشكلة وجوهرها.. ألا وهو إحساسهم بالظلم وعدم المساواة فى تطبيق القانون على الجميع دون استثناء.. هذا ما قاله لى أحد الإعلاميين البورسعيديين.. وأضاف: كنا ننتظر من الرئيس أن يخرج إلينا بعد صدور حكم الإعدام على المتهمين فى قضية مجزرة بورسعيد ويواسينا ويضمّد جراحنا وأن يؤكد لنا أنه قريب منا ويعبّر عن همومنا وآلامنا. بمعنى آخر.. فإن المنطقة الحرة مع تقديرنا لأهميتها وحيويتها الاقتصادية ليست حلاً لأزمتنا الأعمق: ألا وهى الإحساس بالظلم وعدم المساواة. هذا الكلام الدقيق الذى قاله لى صديقى البورسعيدى الذى أعتز به وبأهل بورسعيد كلهم.. باعتبارهم جزءاً أصيلاً من الكيان المصرى.. بل إنهم كانوا دائماً فى طليعة المدافعين عن الوطن فى مواجهة كل الغزاة والمحتلين.. لذا فإن إحساسهم بالظلم يتضاعف عدة مرات.. الأولى لما قدموه من تضحيات فداءً للوطن.. والثانية لإحساسهم بأن العدالة لم تطبق على كل الجناة بذات القدر من المساواة والشفافية.. والثالثة لتجاهل مطالبهم واستمرار دوامة العنف وسيول الدماء.. دون معالجة جادة وشفافة. وفى ذات الوقت يجب الاعتراف بأن هناك أطرافاً خفية (ثالثة أو رابعة سمِّها ما شئت) استغلت كل هذه الأحداث وأشعلتها.. منذ بدء المجزرة فى استاد بورسعيد وحتى الآن، أى أننا لم ننجح فى كشف وفضح هذه الأطراف الشيطانية التى تعيث بأمن الوطن ومازالت، هذه القوى الداخلية والخارجية لا تريد الأمن والاستقرار أو الخير لمصر.. ولكننا نساعدهم بأخطائنا وسوء إدارتنا للأوضاع بشكل عام.. ولقضية بورسعيد بشكل خاص. إذاً فالاعتراف بالخطأ أو الأخطاء هو المدخل لعلاجها.. وأول هذه الأخطاء التسرع فى إصدار قرارات غير مدروسة ثم التراجع عنها بعد فوات الأوان. ورغم أن التراجع عن الخطأ ليس عيباً وأن الاعتذار عنه من شيم الكبار.. فإن تكرار الأخطاء ثم الاعتذارات يضر هيبة الدولة ويمس مؤسسة الرئاسة فى نهاية المطاف. وهناك من يترقبون الأخطاء ويتصيدونها خاصة للرئيس ويربطونها بجماعته وحزبه رغم الانفصال الشاسع بينه وبينهما. أيضاً من الأخطاء سوء توقيت اتخاذ القرار، فالتوقيت عامل حاسم لإنجاح أى قرار وأى مسئول.. فيمكن اتخاذ قرار ممتاز ولكن فى توقيت خاطئ مما يؤدى إلى وأده وقتله فى مهده، حتى لو كان القرار بسيطاً ولا يؤثر على قطاعات عريضة من الشعب. كما أن أسلوب اتخاذ القرار حيوى لإنجاحه وتمريره على كافة المستويات، فأى قرار يجب أن يحظى بمراحل متعددة.. تبدأ من أصحاب الشأن والمستهدفين من إصدار القرار، فقرار حظر التجول فى مدن القناة كان يجب أن يصدر عبر مشاركة شعبية من أهل هذه المدن وكانت هناك بدائل شعبية وحزبية وسياسية لهذا القرار، بحيث يتولى أهل هذه المدن - خاصة بورسعيد- معالجة أمورهم بأنفسهم وبالتعاون مع الأجهزة الرسمية والأمنية أيضاً. ومعالجة هذه الأزمة أمنياً فقط لن يحلها.. والعنف يولّد العنف.. وتجارب التاريخ تؤكد ذلك، كما أن لأهل بورسعيد طبيعة خاصة تتطلب أن نفهمها ونتفهم هذه الشخصية الصلبة العنيدة القوية.. بحكمة وروية، ونحن لا نبالغ عندما نقول إن المعالجة الأمنية فقط لهذه الأزمة سوف تزيدها تعقيداً، بل إن الشرطة ذاتها فى أزمة هائلة وعميقة منذ انكسارها يوم 28 يناير 2011. بمعنى آخر.. فإن أزمة بورسعيد والبؤر المشتعلة الأخرى تزيد أزمة الشرطة ذاتها مع الشعب.. وداخلها أيضاً، فالمطلوب ليس دعم الشرطة بالمعدات والتجهيزات.. بل المطلوب إعادة بناء هذا الجهاز بصورة كاملة، وهذا أول القرارات السيادية المطلوبة بإلحاح وبصورة عاجلة وحكيمة أيضاً. الشرطة بحاجة إلى فلسفة وفكر واستراتيجية جديدة بعيداً عن الفكر القديم العتيق الذى أساء إلى صورتها لدى الشعب على مدى عشرات السنين.. من الرشوة والفساد والابتزاز والتعذيب والسحل والاعتقالات العشوائية التى طالت الاتجاه الإسلامى ذاته وفى مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين، أى أن هذا التيار هو أكثر من اكتوى بنار الشرطة.. سجناً واعتقالاً وتعذيباً ومطاردة وحصاراً ومصادرة، لذا فإن المسئولية الكبرى تقع على عاتق الرئيس لإعادة صياغة هذا الجهاز بصورة جذرية، فكل ما نراه هو محاولات علاج ظاهرية لأزمة جهاز الأمن. والقرار السيادى الثانى المطلوب من مؤسسة الرئاسة هو معالجة أزمة القضاء، هذه حقيقة مؤكدة، فالقضاء فى أزمة عميقة داخلياً ومع المجتمع.. بل إنه دخل فى قلب الصراع السياسى بكل أشكاله وألوانه، ونحن نشهد كل يوم تيارات القضاء المختلفة وهى تبرز انتماءاتها ومواقفها السياسية بوضوح وجلاء.. مما انعكس على أحكام القضاء.. فتحولت إلى أداة من أدوات الصراع السياسى بدءاً من المحكمة الدستورية العليا وحتى مستويات المحاكم المختلفة. لذا فإن تطهير القضاء وتطوير أدائه يتطلب وقفة جادة من السلطة القضائية ذاتها.. بدءاً من مجلس القضاء الأعلى ومختلف أجهزة القضاء بالتعاون مع وزارة العدل، ليجلس الجميع معاً ويضعوا قانوناً جديداً للسلطة القضائية.. نابعاً من الدستور المصرى الجديد.. أول بنوده تجريم اشتغال القاضى بالسياسة أثناء عمله بالقضاء، وأن تكون هناك عقوبات رادعة ومشددة فى هذا الصدد، وثانيها عدم تدخل السلطة الحاكمة بكل مستوياتها - فى أحكام القضاء - أو فى التأثير عليه وقد أحسنت مؤسسة الرئاسة بقرارها عدم الطعن على قرار المحكمة الإدارية العليا برفض قانون الانتخابات وإعادته للمحكمة الدستورية العليا. الإعلام هو ثالث القرارات السيادية المطلوبة بإلحاح، لماذا؟ لأنه مسئول عن 80% من صناعة الأزمات التى نشهدها، فكثير من مشاهد العنف والسحل التى نراها على شاشات الفضائيات مفبركة وتتم بالتعاون والتنسيق مع هذه القنوات.. بل مع مصورى الصحف والمواقع الإليكترونية، وآخرها واقعة الاعتداء على الزميل ممدوح الولى نقيب الصحفيين، فلا يمكن أن يتم التقاط الصورة بهذه الدقة والوضوح وفى هذا التوقيت السريع دون تنسيق وتربيط مسبق ووثيق بين مرتكب هذه الجريمة وبين من تابعها بالصوت والصورة.. ونقلها فوراً على الفضائيات والشبكة العنكبوتية. ونحن نعلم كيف تتم تغطية المظاهرات والوقفات والاعتصامات.. حيث تبدأ العملية بالاتصال بالفضائيات ووسائل الإعلام وحشد أكبر قدر منها.. حتى يظهر الحدث كبيراً وقوياً على الهواء.. رغم أن منظميه عشرات أو مئات على أكثر تقدير، ولكن محترفى الاتصال بالإعلام يجيدون هذه الصناعة.. فيبدو العشرات وكأنهم مئات ويظهر المئات وكأنهم آلاف! لذا فإن الهيئات المسئولة عن الإعلام - وفى مقدمتها نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة ومجلس الشورى - مطالبة بعقد مؤتمر جامع شامل لكل وسائل الإعلام ووضع القوانين والمواثيق المنظمة لعملها.. انطلاقاً من الدستور الجديد.. وأن نسارع جميعاً بتطبيقها وإنهاء هذه الفوضى الإعلامية العارمة التى تفوق خطورتها الفوضى الأمنية والسلوكية التى نشهدها فى كل مكان. القرار السيادى الرابع - وربما جاء ترتيبه الأول - يخص اقتصاد مصر المنهك والمتهاوى للأسف الشديد، وإذا كانت هذه مسئولية الحكومة ومؤسسة الرئاسة بالدرجة الأولى.. فإن المعارضة وكافة الأحزاب تتحمل المسئولية أيضاً.. لأن كثيراً منها يدفع باتجاه عدم الاستقرار.. مما يشجع على عدم جذب الاستثمارات ويؤدى إلى تراجع البورصة، بل إن تصريحات بعض قادة المعارضة تساهم فى هذا الانهيار الاقتصادى بصورة كبيرة.. ثم تحمّل مؤسسة الرئاسة والحكومة مسئولية الفشل. وبغض النظر عمن يتحمل مسئولية تدهور الوضع الاقتصادى.. فإن الجميع مطالبون الآن - وفوراً - بسرعة التحرك لإنقاذ سفينة الوطن.. قبل أن تغرق بنا جميعاً، وإذا كانت الانتخابات البرلمانية قد تأجلت فيجب الإسراع فى تشكيل حكومة جديدة.. قادرة على مواجهة هذه الأزمة الطاحنة وليشارك فيها الجميع.. بما فيها جبهة الإنقاذ. وإذا كان الرئيس قد بدأ منذ فترة لقاءاته مع ممثلى محافظات مصر وطوائفها وقبائلها.. فإن هذا لا يغنى عن التواصل المباشر على أرض الواقع مع كافة الشرائح والفئات. وقد لا تكون الحالة الأمنية مناسبة للقيام بمثل هذا التحرك الحيوى.. ولكن يمكن دعوة وفود من أهل بورسعيد خاصة.. ومدن القناة أيضاً إلى مؤسسة الرئاسة للقاء مباشر وصريح مع الرئيس.. وبعد ترتيب دقيق وحكيم، وليكن صدر الرئيس واسعاً ومهيئاً لاستقبال كل الآراء والإنصات لها.. وسماع المطالب الملحة لأهل بورسعيد.. وكل أبناء الوطن، وأن تصدر قرارات فورية تلبى طموحاتهم، إذا كان المطلوب محاكمة عادلة وشاملة أو إعادة المحاكمات فيتمكن دراسة هذا المطلب وفق القانون والدستور بمنتهى الشفافية والحسم أيضاً. نحن نريد من مؤسسة الرئاسة قرارات رادعة لمواجهة فوضى الشارع بكل أشكالها.. وأولها البلطجة وأطفال الشوارع الذين نراهم يتظاهرون ويقذفون الشرطة بالحجارة والمولوتوف، فإذا كان الحوار الحضارى العقلانى مطلوباً مع العقلاء والحكماء.. فإن الحزم والشدة - والقسوة أحياناً - مطلوبة مع البلطجية والخارجين عن القانون ومن يروعون الناس حتى داخل بيوتهم. *** سيدى الرئيس إن هيبة الدولة وهيبة مؤسسة الرئاسة على المحك.. وأنتم مطالبون بحكم مسئوليتكم الشاملة اتخاذ قرارات سياسية وسيادية حاسمة لإنقاذ أرض الكنانة.. اليوم وليس غداً.