مفتى الديار المصرية.. كرسى عال.. وقامة سامقة لا يستحقها إلا عالم جليل وفقيه كبير يملك الخوض فى دروب الدين وأمور الدنيا، متجردا من الهوى لأنه قاض، يقضى بشرع الله وما تلاه من مصادر تنتهى بالاجتهاد والرأى والشورى.. كيف تم شغل المنصب وتولى الوظيفة بعد دخول الإسلام مصر ومن شغله؟.. وكيف شغله؟ أجابت عن هذه الأسئلة دراسة مهمة وضعها د. عماد هلال أستاذ التاريخ بجامعة قناة السويس وفى استلالها أن مصر لم تعرف مناصب رسمية للإفتاء منذ دخلها الإسلام إلى بداية العصر المملوكى؛ حيث كان الإفتاء طوال تلك القرون فرض كفاية يقوم به متطوعا من حصل على إجازات من شيوخه بالإفتاء. ويضيف د. عماد فى دراسته أنه قد تصدى للفتوى كبار العلماء والمجتهدون بداية من الصحابة الذين دخلوا مصر عند الفتح كعقبة بن عامر الجهينى، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين كعبد الرحمن بن حُجَيرة، ويزيد بن أبى حبيب، ومن تابعى التابعين كعمرو بن الحارث، واللَّيث بن سعد، ومن الأئمة المجتهدين كالإمام الشافعى، ومن تلامذة الأئمة وأصحابهم، كعبد الرحمن بن القاسم، وأَشْهَبِ بن عبد العزيز القَيْسِى، من أصحاب الإمام مالك، ويوسف البُوَيْطِى، وإسماعيل بن يحيى المُزْنِى، من أصحاب الإمام الشافعى. وأبى جعفر الطحاوى من أصحاب الإمام أبى حنيفة. وأوضح الأستاذ بجامعة قناة السويس أن غياب وظائف الفتوى فى مصر لا يعنى أن العلماء المصريين لم يتصدوا للفتوى، ولم يقوموا بفرض الكفاية على أكمل وجه، فقد ظهر عدد من الفقهاء الكبار الذين وصف كل واحد منهم بأنه «المعول عليه فى الفتوى فى زمانه»، أو «المشار إليه بالفتوى فى وقته»، فهذه الألقاب لا تشير إلى وظائف رسمية، بل تشير فقط إلى مكانة سامية فى الفتوى. تطوع وقد استمر الإفتاء تطوعيا فى العصرين الفاطمى والأيوبى، فمِمن تصدر للفتوى فى هذين العصرين: أبو بكر الطرطوشى المالكى، ومِجَلِّى بن جميع الشافعى، والإمام العز بن عبد السلام الشافعى. وعند منتصف القرن الثامن الهجرى/الرابع عشر الميلادى، ظهرت أول وظيفة رسمية للإفتاء فى مصر، وهى وظيفة «مفتى دار العدل الشافعى»، ثم تلا ذلك ظهور مفتى دار العدل من المذاهب الأخرى، وكانت مهمتهم تقديم المشورة الفقهية للقضاة، والإجابة عن استفتاءات موظفى الدولة وعامة الناس. وقد استمر نظام المفتين بدار العدل إلى أواخر القرن التاسع الهجرى/ الخامس عشر الميلادى؛ حيث أهمل هذا النظام تدريجيا ثم بطل تمامًا فى أواخر العصر المملوكى، وعاد الإفتاء تطوعيًّا يتصدر له من امتلك المؤهلات العلمية والإجازات التى تسمح له بذلك. أضاف عماد عندما خضعت مصر للحكم العثمانى سنة 923ه/ 1517م، تركت الأمور على حالها، ولم يهتموا بتعيين مفت حنفى ولا حتى مفت من مذهب آخر. وكان من أشهر علماء الفتوى فى تلك المرحلة شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الشافعى الموصوف بأنه مجدد القرن التاسع (توفى 925ه/ 1520م)، والشيخ خليل مفتى المالكية (توفى 946ه/ 1539م)، والعّلامة زين الدين بن نجيم الحنفى (توفى 969ه/ 1563م)، وشيخ الإسلام وفقيه الديار المصرية فى عصره ومرجعها فى الفتوى والموصوف بأنه مجدد القرن العاشر شمس الدين محمد الرَّمْلى (توفى 1004ه/1596م). تأجيل المحاولة يبدو أن الدولة العثمانية كانت تحاول إيجادَ مناصب رسمية للفتوى يتم تعيين شاغليها من «إسلامبول» بعد أن تربع على عرش الفتوى الإمام شمس الدين الرملى الذى كان يُعرقل هذه المحاولات، وكان علماء مصر- خاصة الشافعية- يهابونه ويجلونه، ويخشون تولى مناصب للإفتاء من قبل الدولة فى وجوده، وعندما تجرأ أبو السرور البكرى على أن يطلب من الدولة تولى منصب إفتاء الشافعية بالديار المصرية، غضب الرملى على البكرى، واضطر الأخير للاعتذار، وأدى ذلك إلى تأجيل المحاولة، فلم تجرؤ الدولة العثمانية على تعيين آخر فى وجوده، واضطرت للانتظار حتى وفاته لتجرى بعض التغييرات على نظام الإفتاء. ولم تكن الدولة راغبة فى تعيين مفت شافعى رسمى فى مصر، كما لم تكن لديها الجرأة على تعيين مفت حنفى فى بلد يسوده المذهب الشافعى؛ ولذلك فإنها قررت أن تعين مفتيا مالكيا حمل لقب «مفتى السلطنة المؤيدة على مذهب الإمام مالك بالديار المصرية». وقد توفى الرملى فى 13 جمادى الأولى سنة 1004ه/ 14 يناير 1596م، وصدر فرمان السلطان محمد الثالث فى 20 شوال 1004ه/ 17 يونية 1596م، بتخصيص مبلغ مالى لمن سيشغل منصب مفتى السلطنة المؤيدى على المذهب المالكى. ولم تذكر المصادر اسم من تولى هذا المنصب حتى سنة 1011ه/1603م، حيث ذكرت المصادر اسم شمس الدين محمد بن زين الدين عبد الرحمن بن عبد الوارث البكرى الصديقى المالكى الشهير بابن عبد الوارث، فوصفته وثيقة خاصة بتعيينه شيخا على وقف فارس المحمدى، ومؤرخة فى 3 رمضان سنة 1011ه/ 14 فبراير 1603م، بأنه «مفتى المسلمين، مفيد الطالبين، حجة المناظرين، العالم الأفضل المتين، محمد شمس الدين البكرى الصديقى المالكى الشهير نسبه بابن عبد الوارث، مفتى السلطنة بالديار المصرية». وكان ابن عبدالوارث هو الأول والأخير من المفتين المالكية الذين شغلوا منصب «مفتى السلطنة المؤيدة بالديار المصرية». وأشار د. عماد هلال إلى أنه من الواضح أنه كان من علماء الصف الثانى، فلم نعثر له على ترجمة فى كتب التراجم، والغريب أن الدولة اختارت للفتوى علماء مجهولين فى زمن كان العلامة سالم السنهورى (توفى 1015ه/ 1606) ملء السمع والبصر، فهو كما قال عنه المحبى: «الإمام الكبير، المحدث الحجة الثبت، خاتمة الحفاظ، وكان أجل أهل عصره من غير مدافع، وهو مفتى المالكية ورئيسهم». مفتى السلطنة ثم كانت الخطوة الثانية فى سعى الدولة للسيطرة على الإفتاء بتعيين مفت شافعى حمل لقب «مفتى السلطنة الشريفة بالديار المصرية»، هو أبو السرور البكرى (توفى 1007ه/ 1598م)، ثم توارثت أسرته هذا المنصب من بعده، وقد تلقى البكرى العلوم النقلية والعقلية على يدى والده أبى المكارم محمد البكرى، وقد ذكر ابنه المؤرخ محمد بن أبى السرور أن والده كان أول من لُقب بلقب «مفتى السلطة الشريفة بالديار المصرية»، ولقب «شيخ الإسلام»، غير أنه حصل على اللقب بعد وفاة الرملى؛ حيث ذكرته وثيقة يرجع تاريخها إلى الثانى من جمادى الآخرة سنة 1006ه/ 11 ديسمبر 1597م، أى بعد وفاة الرملى بعامين تقريبا، وهى خاصة بتأجيره 52 ساقية من أوقاف ناحية الحماد وما يتبعها من أراض زراعية إلى بعض مشايخ تلك الناحية، ووصف فيها بأنه: «شمس الدين أبى عبد الله محمد أبى السرور البكرى الصديقى الأشعرى، مفتى السلطنة الشريفة بالديار المصرية». وبعد وفاة أبى السرور انتقل منصب «مفتى السلطنة الشريفة» إلى أخيه الأكبر أبى الوفاء تاج العارفين (توفى 1008ه/ 1598م)، الذى كان أكثر أولاد البكرى مالاً وأوفرهم نعمة. فقد تلقى العلوم التقليدية عن أبيه وغيره من العلماء، وتبحر فى العربية والتفسير والأصول. ولم يمكث فى المنصب إلا عاما واحدا، ثم سافر للحج فى نهاية سنة 1007ه/ 1598م، ومات فى طريق عودته إلى مصر فى صفر سنة 1008ه/ سبتمبر 1598م. جاء بعده زين العابدين البكرى (توفى 1013ه/ 1604م)، والذى نشأ نشأة تقليدية فتلقى العلم على والده، ثم تولى منصب «مفتى السلطنة الشريفة» بعد وفاةِ أخيه تاج العارفين، وقد بلغ زين العابدين فى آخر أمره درجة عالية من الجلالة ونفوذ الكلمة، حتى خشيه حكام مصر وكانوا يدارونه ويطلبون رضاه، ثم تآمروا لقتله، فمات مسموما فى 3 ربيع الأول سنة 1013ه/ 30 يوليو 1604م. بعد وفاة زين العابدين انتقلت زعامة البيت البكرى إلى أخيه أبى المواهب (توفى 1037ه/ 1628م)، وكان فى بداية أمره مائلاً إلى الخلاعة، وكانت مجالسه مشحونة بأنواع الطرب من المسمعين وصنوف الملاهى، وكان لما مات والده جرى بينه وبين إخوته منافسات، وأمور تسكب عندها العبرات، حتى استقر الأمر لزين العابدين إلى أن وقع قبله، وكان أبو السرور مات قبله، فسمت الرتبة إلى أبى المواهب، وتذكر وثائق المحاكم الشرعية اسم أبى المواهب مشفوعا بلقب مفتى السلطنة، وقد اشتهر أبو المواهب بقرض الشعر، وله ديوان شعر سماه (ترجمان العوارف وبستان المعارف)، غير أنه لم يشتهر بالفقه ولم يتصدر للإفتاء، ولا يوجد ما يشير إلى أهليته لمنصب «مفتى السلطنة الشريفة بالديار المصرية» غير انتمائه للأسرة البكرية العريقة التى توارثت هذا المنصب منذ ظهوره وحتى اختفائه. زين العابدين وذكرت الدراسة أنه جاء بعده أحمد بن زين العابدين البكرى (توفى 1048ه/ 1638م) وكان أديبًا أكثر منه فقهيًا، ولم يتصدر للفتوى، ولكنه ورث منصب إفتاء السلطنة عن أبيه وأعمامه، وآلت إليه زعامة البيت البكرى بعد وفاة عمه أبى المواهب سنة 1037ه/ 1628م، وشغل منصب «مفتى السلطنة الشريفة بمصر»، حيث وصف بهذه الصفة فى وثيقة مؤرخة برمضان سنة 1045ه/ فبراير 1636م. وقد صنف أحمد بن زين العابدين كتبا كثيرة، جاءت معظمها فى الأدب، ولم نر له كتابًا فى الفقه، وأهم كتبه: (روضة المشتاق وبهجة العشاق)، وقد جعله على أسلوب لوعة الشاكى ودمعة الباكى، وهكذا كان أحمد بن زين العابدين. وأما عبد الرحمن بن زين العابدين (توفى 1063ه/ 1653م) فقد كان هو الأوسط من أولاد زين العابدين البكرى وهم: أحمد وعبد الرحمن ومحمد. ذكر مترجموه أنه قرأ على أخيه أحمد بن زين العابدين، وبه تخرج، وأنه أخذ علوم العربية عن العلاَّمة جودة الضرير. ولعل هذا القدر من التعليم لم يكن كافيًا ليؤهله لتولى منصب مفتى السلطنة، ولكن الواضح أن هذا المنصب تحديدًا كان منصبًا وراثيا لا يعتمد على الكفاءة، وتشير وثائق المحاكم الشرعية إلى أنه تولى منصب مفتى السلطنة بعد وفاة أخيه أحمد بن زين العابدين، فوصفته وثيقة تاريخها 17 ذى القعدة سنة 1050ه/ 28 فبراير 1641م بتلك الصفة، وهى بخصوص تصديقه على ما صرفه أحد الأشخاص على تعمير إحدى جهات وقف من الأوقاف التى كان هو ناظرًا عليها. وقال الدكتور عماد: جاء بعده محمد بن زين العابدين البكرى (توفى 1087ه/ 1676م) والذى نشأ بمصر وحفظ القرآن، واشتغل بطلب العلوم فأتقنها، وبرع فى كثير من الفنون لاسيما علمى التفسير والحديث، وتعلَّم التصوف وكانت له فيه قدم راسخة. وأقبل على التدريس حتى صار رئيس البيت البكرى فدرَّس كسائر أسلافه فى الجامع الأزهر فى الليالى المشهورة، كليلة المولد النبوى، وليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان، فلما كبر ترك ذلك كله واستقل بالإفادة فى بيت آل البكرى. ولا نستطيع إلا أن نقول إن محمدًا لم يتلق من العلم ما يكفيه للقيام بمهمة التدريس، ولم يستطع الصمود فى هذا الميدان فاكتفى بالجلوس فى بيته المشهور، والاعتماد على نسبه الكريم، والاستناد إلى ما يحصل عليه من مناصب بحق المكانة والوجاهة لا بحق العلم والنبوغ. ومن تلك المناصب بالطبع منصب «مفتى السلطنة الشريفة بمصر»، وليس أدل على ذلك من قول المحبى عنه: «ولو لم يكن له من عموم الشرف إلا خصوص هذه النسبة لكفاه ذلك فى الفخر وعلو الرتبة، وناهيك فخرًا بأنه من ذرية من اختاره الرسول للصحبة والمصاهرة، واصطفاه للخلافة على ملته وشريعته الطاهرة، فيحق لأهل السنة والجماعة أن يطوفوا ويسعوا إلى هذا البيت فى كل وقت وساعة». وكان محمد بن زين العابدين البكرى هو آخر من حمل لقب «مفتى السلطنة الشريفة بمصر»؛ حيث لم نعثر فى أى مصدر من المصادر على من حمل ذلك اللقب بعده. ويحكى الدكتور عماد هلال قائلا إنه يبدو أن نجاح الدولة فى تعيين مفت مالكى سنة 1004ه/ 1596م، ثم مفت شافعى سنة 1006ه/ 1597م شجعها على تعيين مفت حنفى، ولكنها كانت فى هذه المرة أكثر تطرفًا، فلم تكتف بتعيين فقيه من الصف الثانى فحسب، بل عيَّنت مفتيا حنفيا روميًّا، متجاوزة بذلك أعلام الفقهاء الحنفية المصريين من أمثال: شهاب الدين الغنيمى، وعبد الله النحريرى، وعبد القادر الطورى، وشهاب الدين أحمد الشوبرى، وغيرهم من كبار الأئمة الذين كانت أسماؤهم تملأ الساحة الفقهية فى ذلك الوقت. ولعل هذا كان أحد العوامل التى أدت إلى فشل تلك المحاولة، وكان استمراره مع الشافعية راجعًا إلى توارث أسرة البكرى العريقة له، فكان بالنسبة لأعضائها نوعًا من الوجاهة الاجتماعية، وبلا أية صلاحيات أو اختصاصات. وأشار عماد فى دراسته إلى أن المفتى الحنفى الوحيد الذى أمدتنا به المصادر فهو أبو يوسف محمد بن على الرومى الحنفى، ولا توجد تراجم له فى كتب التراجم الخاصة بالقرن الحادى عشر. وكل ما لدينا من معلومات عنه مصدره وثيقة مؤرخة فى 26 صفر سنة 1022ه/ 17 إبريل 1613م، وصفته بأنه «مفتى السلطنة العثمانية الشريفة». ويرى هلال أن الدولة العثمانية عند سيطرتها على مقاليد الأمور فى مصر، لم تهتم بإحداث تغييرات فى مناصب الإفتاء أو السيطرة عليها، ثم حدث تحول مهم فى نظرة الدولة إلى الإفتاء فى مطلع القرن الحادى عشر الهجرى/ السابع عشر الميلادى؛ حيث أوجدت منصب «مفتى السلطنة الشريفة بالديار المصرية»، مستغلة وفاة الفقيه المجتهد شمس الدين محمد الرملى. ولا توجد أية معلومات عن الحدود الوظيفية لهذا المنصب، وما إذا كان شاغله يقدم فتاواه لمن يطلبها من عامة الناس أم للقضاة والولاة وحكام الأقاليم فى مصر. وأضاف الظاهر أن هذا المنصب لم يكن له من دور فى الحياة القضائية أو الفقهية أو حتى الإدارية، وأنه لم يكن يزيد على كَوْنِه نوعًا من الوجاهة الاجتماعية التى اكتسبتها أسرة البكرى فى تلك الفترة. ومع مرور الوقت اختفى هذا المنصب ليحل محله مناصب غير رسمية للإفتاء فى المذاهب الأربعة، وعاد الإفتاء تطوعيًّا من جديد، واستمر على ذلك الحال فى القرن الثانى نشر الهجرى/ الثامن عشر الميلادى، إلى أن أوجد محمد بك أبو الذهب مناصب رسمية للإفتاء فى أواخر ذلك القرن، عندما أنشأ مدرسته الشهيرة تجاه الجامع الأزهر وخصَّص فيها أماكن لجلوس ثلاثة مفتين، وعين لهم المرتبات الكافية. انتهى النقل عن الدراسة لكن بقى مقعد الافتاء تاريخيا منصب مثير للجدل خاصة وأن هناك كلاما قيل بعد الإعادة الرسمية لمنصب المفتى بداية القرن العشرين، عندما اختير الشيخ محمد عبده مفتيا لمصر وقيل إن الإنجليز ساعدوا على ذلك لقرب منصب شيخ الأزهر (!!) وهذا موضوع لدراسة أخرى.