من الغريب أن من يدافعون عن هيبة الدولة هم الذين ساهموا فى إسقاطها وتحطيمها بكل الوسائل.. وأن هؤلاء انتقلوا من مواقع الدفاع إلى الهجوم.. بسرعة فائقة.. ودون حياء أو خجل.. أو حتى خوف من حساب العباد.. قبل حساب رب العباد. ومن المؤسف أننا جميعاً -مؤيدين ومعارضين- ندفع ثمناً فادحاً لهذه الهيبة الضائعة أو التى تم تضييعها عمداً. وإذا أردنا تأصيل جذور هذه المشكلة (سقوط هيبة الدولة) فإننا نؤكد أن النظام السابق هو الذى بدأ وزرع بذورها وظل يرعاها.. حتى ضاعت مكانة الوطن والمواطن.. فى الداخل والخارج.. مع كل الأسف. ذاك النظام الذى أهان المصرى فى الداخل.. أتاح لكل من هب ودب فى الخارج إهانته.. بل واستلاب حقوقه وإضاعة جهده وعرقه. وكلنا كنا نتابع مآسى المصريين خارج حدود الوطن ومدى تقاعس المسئولين السابقين عن الدفاع عنهم.. بل إن بعضهم شارك فى هذه الإهانة والمهانة.. ليس للمواطن المهاجر البسيط.. ولكن للوطن بأسره. عندئذ بدأ سقوط هيبة الدولة.. فمن لا يحترم نفسه لا يحترم المواطن.. ومن لا يُحترم داخل الحدود سوف يُهان.. بلا حدود! وبعد هذه المأساة التى عشناها مع النظام السابق.. واصل الفلول وأبواق مبارك ذات المسلسل المهين بعد الثورة.. وشاركوا فى إسقاط هيبة الدولة باصطناع الأزمات وتشغيل جيوش البلطجية. وكلنا نعلم أن أزمات الوقود والبوتاجاز كانت ومازالت تجارة رائجة لفلول النظام البائد. وكلنا يعلم كيف يتم تهريب السولار والبنزين المدعوم من خلال هذه المافيا المنظمة واسعة الانتشار.. والتى شارك فيها مسئولون فى هيئات بترولية.. كما أعلن رئيس الجمهورية.. وكما كشفت التحقيقات والتحريات. أما البلطجية الذين مارسوا كل أنواع الجرائم وسرقات السيارات فقد ارتبطوا بالنظام البائد وعملوا معه فى تزوير الانتخابات ومطاردة المعارضين.. بل الاعتداء على الكثيرين منهم.. أما سجن هؤلاء البلطجية فقد كان صورياً.. حيث يدخلون من الباب ويخرجون من الشباك دون رقيب أو حسيب. هذه المافيا المنظمة التى أسقطت هيبه الدولة من خلال ضرب الأمن وإحساس المواطن والزائر بعدم الأمان ساهمت فى ضرب الاقتصاد والاستثمار بعد زعزعة أركان وأسس استقرار الوطن. وللأسف الشديد ساهم بعض المسئولين السابقين خلال الفترة الانتقالية فى تحقيق ذات الهدف: إسقاط هيبة الدولة. فأحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومذبحة بورسعيد وتهريب الأجانب فى فضيحة التمويل الأجنبى كل هذه المشاهد المؤسفة ساهمت فى إسقاط هيبة الدولة.. وأشاعت حالة من عدم الاستقرار. ليس هذا فقط.. بل إن بعض الساسة والأحزاب ساهموا فى جريمة إسقاط هيبة الوطن والمواطن.. عمداً أو جهلاً. فمنهم من يتكتل ضد تيار معين.. ومنهم من يحرض على الفتنة والعنف.. ومنهم من يدعو المستثمرين الأجانب إلى الهروب أو عدم الاستمرار فى السوق المصرية. هكذا و بكل بساطة ودون أدنى إحساس بالمسئولية ساهم هؤلاء ليس فقط فى إسقاط هيبة الدولة.. بل فى الإضرار بمصالحنا العليا. وللأسف الشديد ساهمت الإضرابات والاحتجاجات الواسعة فى إسقاط هيبة الدولة أيضاً.. وبعثت برسائل عديدة للخارج والداخل.. بأن مصر غير مستقرة وغير آمنة.. رغم التحسن الملحوظ فى حالة الأمن وهو ما نشهده ونشعر به جميعاً. ولعل تأجيل انطلاق الدورى مراراً يعتبر مؤشراً سلبياً آخر.. ورسالة فى كل الاتجاهات تقول: إن الدولة غير قادرة على تأمين «ماتش كورة».. فكيف تؤمن وطناً بأكمله؟.. وكنا نود أن تتخذ الداخلية قراراً شجاعاً باستعدادها لتأمين مباريات الدورى بكل قوة وجدية وتخطيط وتنظيم جيد. ورغم أن هذا القرار يخص «لعب الكورة».. إلا أنه رسالة سياسية وأمنية واقتصادية أيضاً.. ناهيك عن كونها وسيلة ترويحية ومتنفساً جماهيرياً. يكفى أن نعلم أن هناك الملايين من اللاعبين والمدربين والأندية ووسائل الإعلام التى تعيش على هذه الصناعة الضخمة المهددة بالموت. ويكفى أن نعلم أن كثيراً من اللاعبين والمدربين قد هجروا هذا المجال وتحولوا إلى مهن أخرى.. بعضها مُهين ..للأسف الشديد. وإذا كان الإعلام قد ساهم - بقصد أو بحسن نية- فى هذه المأساة الكروية فإنه شارك أيضاً فى المأساة الأكبر (إسقاط هيبة الدولة). نعم نحن نقول هذا دون أن نتجنى على أحد.. ونحن إعلاميون نمارس هذه المهنة منذ عشرات السنين. ولكن شهادة الحق تقتضى أن يصارح بعضنا بعضاً.. لا أن نتصارع فيما بيننا. لقد تهافتت بعض وسائل الإعلام على السبق دون أن تتحرى مصداقية ودقة أخبار كثيرة.. بل إن بعضها انتهج سياسة ثابتة مُحرِّضة أو مغرضة للأسف الشديد. وأصبحنا نحدد هوية الوسيلة الإعلامية (مطبوعة أو مسموعة أو فضائية أو إليكترونية) من مجرد الاسم.. دون الخوض فى التفاصيل. وحدث ما يشبه التقسيم الإعلامى بين الجماهير.. هؤلاء يتابعون الفضائيات الدينية.. وأولئك يتابعون القنوات الحزبية.. وآخرون يعشقون ويهتمون بإعلاميين معينين من المشاهير!! فتحولت الوسائل الإعلامية إلى ما يشبه القوالب سابقة التجهيز.. كما تحول الجمهور إلى أوعية مضبوطة على موجات محددة!! *** هذه هى بعض الأطراف التى ساهمت فى إسقاط هيبة الدولة.. ولكننا يجب أن نقدم رؤية موضوعية للحل.. من أجل استعادة هذه الهيبة الضائعة أو المفقودة.. ولعل أولى وسائل عودتها تتمثل فى الالتزام بسيادة القانون.. وقبل ذلك الالتزام بالدستور بعد إقراره فى استفتاء شعبى. والوضع فى مصر لا يحتمل التأجيل أو التلاعب بمسألة الدستور. فالتأجيل واحتمال حل الجمعية التأسيسية سوف يدفع البلاد إلى مزيد من عدم الاستقرار وسوف ينعكس عليها سلبياً.. اقتصادياً وسياسياً. وحتى نستعيد هيبة الدولة يجب أن نلتزم جميعاً بقيم وأخلاق المجتمع وهويته الحضارية. فلا يمكن أن تقوم دولة دون احترام لتراثها وعقيدتها وتاريخها ونحن نشهد حجم التجاوزات الأخلاقية.. سواء فى الفضائيات أو على أرض الواقع نشاهد ذلك فى البيوت والمدارس والمواصلات العامة.. ولعل أساس هذا الانفلات الأخلاقى هو عدم وجود القدوة.. بل لا نتجاوز إذا قلنا إن بعض الكبار بحاجة إلى تربية قبل أن يبدأوا تربية أبنائهم!! ومثلما تتعرض قيم المجتمع للانتهاك.. تواجه رموزه وأعلامه ذات الحملات الشرسة من التجاوزات. فلم يسلم أحد من الهجوم والنقد الجارح.. بل والقذف والسب. ولم تعد هناك معايير محددة وضوابط أخلاقية نؤكد من خلالها احترامنا للكبار مثل الصغار. وحدثت موجة من الانفلات اللفظى والسلوكى.. كادت تصل إلى الفوضى بعد ثورة 25 يناير التى حمَّلها البعض - ظلماً وعدواناً- ما نشهده من تجاوزات وأزمات. وحتى نستعيد هيبة الدولة يجب أن تحترم كافة السلطات حدودها.. فلا تجاوز من سلطة على أخرى. فالدستور القائم حالياً يضع حدوداً واضحة وفاصلة ومحترمة تؤكد هذا الفصل.. كما توضح كيفية التواصل والتعاون فيما بينها من أجل مصلحة الوطن. وعلينا جميعاً إدراك خطورة الأوضاع الاقتصادية التى تمر بها البلاد.. فلا يمكن أن نحقق المطالب الفئوية فى ظل الاحتجاجات والإضرابات المتصاعدة.. وكما قال وزير المالية فنحن بحاجة إلى 300 مليار جنيه لتحقيق هذه المطالب.. علماً بأن عجز الموازنة يقترب من 170 مليار جنيه. أى أننا بحاجة إلى نحو نصف تريليون جنيه لسد عجز الموازنة وتحقيق المطالب الفئوية.. وهو رقم مستحيل.. ولا يمكن توفيره بأى حال من الأحوال. ورغم ذلك فإن الصورة ليست قاتمة تماماً.. فقد زادت الصادرات لأول مرة منذ ستة أشهر.. كما ارتفع عدد السياح خلال أغسطس الماضى بنسبة تقترب من 15% بمعنى أننا يجب أن نفتح نوافذ الأمل.. حتى نرى نور الفجر الجديد. ومن أساسيات استعادة هيبة الدولة أن نعيد للشرطة ولرجال الأمن مكانتهم وثقتهم بأنفسهم.. وقد بدأوا بالفعل فى تحقيق هذا الهدف. ولن يستكملوا مهمتهم دون تعاون الشعب معهم. وقد يكون «غفير الدرك» بصيحته القوية «مين هناك» مقدمة لاستعادة هذه الهيبة المفقودة!