«حديث النهايات.. يطارد مستقبل الصحافة الورقية المطبوعة» عنوان بديع صادفته فى مجلة «الجورنالجى» وهى مشروع تخرج طلبة المعهد العالى للإعلام وفنون الاتصال لهذا العام، المجلة بديعة تحريرياً وإخراجياً وتعكس زهرة شباب ناضر يتفتح برعمه فى جو عاصف يواجه الصحافة المصرية بشكل عام وفى القلب منها الصحافة القومية التى تواجه أكثر من تحد ما بين المنافسة الشرسة للصحافة الالكترونية والإعلام المرئى إلى المنافسة الأكثر شراسة من الصحافة المستقلة عن الدولة (الخاصة والحزبية) إلى الخسائر الاقتصادية الرهيبة الناتجة عن سوء التوجيه والإدارة فى السنوات السابقة يضاف إلى هذه التحديات تحدٍ جديد يتمثل فى صراع الأيديولوجية والولاء للتيارات السياسية المختلفة هذا الصراع الذى يشهد حالة فوران بعد ثورة 25 يناير، وهذا الواقع يطرح أزمة حقيقية تواجه الصحافة القومية الآن لذلك يمكن أن نعيد صياغة عنوان طلبة المعهد العالى للإعلام ليصير كالتالى:(حديث النهايات يطارد الصحافة القومية المطبوعة). (1) ومع التغييرات الأخيرة فى صفوف رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف القومية يتردد فى صدور الصحفيين وفى أحاديثهم أصداء مخاوف تعبر عنها أسئلة عديدة يتعلق أكثرها بمصير صحفهم التى ينتمون إليها، ولم يعد حديث إعادة الهيكلة والدمج وبيع المؤسسات التى تصدر عنها هذه الصحف حديثاً خافتاً أو ثانوياً فى مجتمع هذه الصحف المكبلة مؤسساتها التى تصدر عنها بالديون، والتى تكلف الدولة ميزانيات ليست بالقليلة تلقى بعبئها على الميزانية العامة وتخصم من موارد مالية ما هو أولى أن يوجه إلى طعام وشراب وخدمات يحتاجها الشعب، وربما يتردد سؤال فى ذهن صانع القرار الآن ومنذ سنوات قليلة خلت: هل تستحق الصحافة القومية فى وضعها الحالى المزرى مثل هذه التضحيات الاقتصادية؟! أما أعداء الصحافة القومية الذين حاربوها خلال السنوات الأخيرة ليطيحوا بها ويملكوا ناصية الإعلام ويوجهوه لصالح مشروعهم السياسى والأيديولوجى، هؤلاء لا يكتفون بالسؤال عن جدوى الصحافة القومية التى توجه لخدمة النظام الحاكم على الدوام لكنهم لا يكفون عن مهاجمتها ليلاً ونهاراً ويهيلون التراب على رأسها فى كل مناسبة ويحرضون ضدها الشعب من دافعى الضرائب وهم يفعلون هذا ليس فقط مع صحافة الدولة، ولكن مع كل مؤسسات الدولة فى سعيهم لخلق مشروع دولة الحد الأدنى التى يقتصر دور الدولة على القيام بمهمة الشرطى الذى يحمى الممارسات والحريات الشخصية للأفراد. (2) الصحافة بدأت فى مصر بعيدة عن الحكومة والنظام فيما عدا صحيفة الوقائع التى ارتبطت بالدولة جاء الشوام مهاجرين إلى مصر وأسسوا للصحافة الحديثة نهايات القرن التاسع عشر، والذين سجلوا تاريخ اليهود فى مصر بدايات القرن العشرين وحتى منتصفه أخبرونا أن اليهود سيطروا على شركات الإعلانات الرئيسية والكبرى وتحكموا من خلالها فى اقتصاديات الصحف التى كانت تصدر فى الثلاثينيات والأربعينيات تحديدا واستطاعوا من خلال ذلك تمرير دعاياتهم للمشروع الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين، وحققوا فى ذلك نجاحاً كبيراً حتى أنهم نجحوا فى خداع عدد ليس بقليل من المفكرين والكُتاب المصريين ووظفوهم لصالح هذا المشروع قبل أن يكتشف هؤلاء الأخيرون حقيقة الأطماع الصهيونية فى فلسطين. وفى مصر الكوزموبوليتانية التى اختفت تحت حماية المحتل البريطانى كل الجنسيات الغربية، كان الأجانب أيضاً يسيطرون على وكالات الأنباء ويتحكمون فى تدفق المعلومات لغير الصالح الوطنى المصرى دائما وكان هذا يحدث فى الوقت الذى ينحصر فيه الإعلام الجماهيرى على وسيلتين هما الصحافة والراديو – إذا استثنينا السينما كأداة اتصال – وحتى الراديو لم يكن منتشرا بين عوام المصريين الفقراء قبل اختراع الراديو الترانزستور، واستمر هذا الوضع الذى كانت تمثل فيه الصحافة الورقية الأداة الرئيسية للإعلام والتأثير خلال القرن العشرين إلا قليل من سنواته الأخيرة. وكما أسلفنا كانت الدولة المصرية بعيدة عن امتلاك هذه الأداة والوسيلة حتى جاء نظام ثورة يوليو الممثل فى عبد الناصر ورجاله وقرر السيطرة عليها لتسهيل توجيهها لصالح مشروعه السياسى والاجتماعى وبصيغة أخرى يوجهها للسيطرة على العقل الجمعى للجماهير المصرية التى يراد تعبئتها بجانب مشروع الثورة، لذلك أصدر عبد الناصر فى 24 مايو 1960 قرارا جمهورياً رقم 156 بقانون ينقل ملكية الصحف إلى الدولة ممثلة فى الاتحاد القومى، وبلغ عدد المؤسسات التى وضعت الدولة يدها عليها – بمقتضى هذا القرار الذى تحول إلى قانون عُرف بقانون تنظيم الصحافة – عشر مؤسسات خمس منها تم تأميمها (الأهرام – أخبار اليوم – دار الهلال – روز اليوسف – دار المعارف) ومؤسسة تم الاستيلاء عليها من قبل هذا القانون (المصرى) وأربع مؤسسات جديدة تم إنشاؤها من المال العام (وكالة أنباء الشرق الأوسط – دار التحرير – دار التعاون – الشركة القومية للتوزيع) وظلت الصحافة القومية المملوكة للدولة تنتقل ملكيتها (الصورية) من الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى إلى مجلس الشورى، وهى ملكية لا تعنى إلا أن هذه الصحافة تم تحديد إقامتها قسراً فى حظيرة النظام، وتحت رقابته وعينه، هذه الرقابة التى تمثلت أولاً فى شخص الرقيب الموظف الذى يمارس مهامه داخل المؤسسات الصحفية ذاتها ويفتش الإصدار قبل أن يسمح بطباعته وتداوله بحيث لا تمر كلمة أو جملة ضد النظام والمعايير الولائية القائمة آنذاك. واستمر هذا الوضع إلى أن جاء السادات وتم إلغاء وظيفة الرقيب ليقوم بدوره رئيس التحرير الذى يعينه النظام بعد استيفائه لشروط الولاء والسيطرة، هذا النموذج الذى انتهى – على الأقل نظرياً – فى صحافة الدولة الحديثة الديمقراطية التى انتهت أيضاً فيها وظيفة وزارة الإعلام وحل محلها هيئات وطنية تدير وسائل الإعلام الرئيسية ذات التأثير وأشهر نموذج فى هذا الصدد هو هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، لكن قضية حرية الإعلام فى الغرب الحديث تطرح أيضاً إشكالية خطيرة يمكن صياغتها فى سؤال: هل حقاً يتمتع الإعلام وتتمتع الصحافة فى الغرب بالحرية الحقيقية الكاملة والشفافية والموضوعية فى ظل غياب الدولة عن ملكية هذه الوسائل؟! الإجابة هى النفى بالتأكيد والممارسة العملية تؤكد أن هذه الصحف تحولت من التعبير عن الرأى العام فى ظل ملكية الدولة إلى التعبير عن رأى التيارات والجماعات والأحزاب التى تملكها ليس هذا فقط، ولكنها تحولت إلى أدوات ضغط هائلة تؤثر على صانع القرار من خلال حشد الرأى العام وتوجيهه، وكما حدث فى مصر إبان دخول المشروع الصهيونى مرحلة التنفيذ حدث فى الغرب ومازال يحدث فقد سيطر اليهود على أكثر وسائل الإعلام وأدوات الاتصال الجماهيرى من صحف إلى وكالات أنباء إلى محطات تليفزيونية، وحتى صناعة الدراما ورمزها هوليوود، وباقى أفرع صناعة الترفيه.. استطاعوا من خلال ذلك خداع الشعوب الغربية، والتأثير على صُناع القرار والرؤساء والحكومات ونواب الشعوب وممثليهم فى البرلمانات ليس فقط من خلال وسائل الإعلام، ولكن من خلال وسائل أخرى ورشى عديدة مادية ومعنوية لكن بقيت وسائل الإعلام هى التى تصنع النجوم، وهى التى تشهِّر بالمعارضين وتخلق لهم الفضائح وتجرسهم.. وسائل الإعلام عى التى تقتل وهى التى تحيى بعد الله. (3) تحرير الإعلام من سيطرة الدولة.. كان جزءاً من اللعبة أو المخطط الذى عادت به الرأسمالية العالمية واليهود إلى عصر العولمة. وكان جزءاً من معاهدات وشروط مؤسسات وهيئات عولمية غربية ومؤسسات ما يسمى بالمجتمع المدنى ولا تندهش إذا قُلت لك إنها كانت جزءاً من عمل صندوق النقد والبنك الدوليين كانت ورقة ضغط هائلة استجاب لها النظام السابق فلقى مصرعه بعد أن انصاع لهذه الضغوطات ورباها فى قصره، فكانت الأداة والسحر الذى ساعد على خروج الشعب فى 25 يناير والدفع بهم إلى الشارع ضد النظام ورجاله.. وأقول ساعد، لأن الفساد فى النظام الغبى كان مثل القنبلة التى تحتاج إلى مفجر وكان الإعلام هو هذا المفجر. (4) والآن ومع كل تغيير يحدث فى قيادات الصحافة القومية أسأل نفسى ويسأل كثيرون مثلى: ماذا يريد من يحكموننا من الصحافة والإعلام القومى؟! هل لا يريدون الانتقام كما يظن البعض؟ هم أذكى وأعقل من هذا وهم لديهم مشروعهم الذى يشغلهم الآن أكثر من أى شىء آخر لذلك أنا أتصور أنهم يريدون توظيف هذه الوسيلة لصالح مشروعهم كما فعل عبد الناصر من قبل.. والسؤال مرة أخرى: كيف؟! بهدم هذه المؤسسات وإعادة بناء غيرها؟ أم تفكيكها أو بدمجها؟ هل هم معنيون فقط بالجانب الاقتصادى؟! وهل سوف يكتفون فى المرحلة القادمة بأهل الثقة ويستبعدون الكفاءات.. وإذا فعلوا هل يستطيعون المنافسة فى سوق مفتوح تلعب فيه المهارة والكفاءة دورا كبيرا فى الصراع على عقل المتلقى من الشعب المصرى؟! الأسئلة تستحق أن تناقش بعمق قبل اتخاذ قرارات قاطعة بشأن الإعلام والصحافة القومية أخطر سلاح على مستوى الداخل على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة الحاسمة فى معركة استقرار ونهوض الدولة المصرية المهددة بالأخطار الجسيمة.