أنتهز فرصة الشهر الكريم الذى يضفى علينا هدوءا وسكينة ويمنحنا وقتا أطول وأعمق للتأمل، وأتوقف مؤقتا عن ملاحقة قطار الأحداث الذى انشغلنا جميعا - كتابا وصحفيين وإعلاميين - بملاحقته منذ اندلاع أحداث ثورة 25 يناير وحتى الآن.. أى منذ أكثر من عام ونصف العام.. أنتهز الفرصة لأمنح نفسى والقارئ هدنة مؤقتة نبتعد بها عن ملاحقة الوقائع والأحداث التى تتحرك بسرعة فائقة وغرابة متناهية.. فقطعت أنفاسنا من الجرى وراءها!.. وأفعل ذلك من خلال حكايات قصيرة اخترتها بعناية.. ليس من أجل التسلية، إنما لأنها من وجهة نظرى مليئة بالمعانى الجميلة التى تستحق أن نفتح لها عقولنا.. متأملين!.. ثم إن الحكايات بطبيعتها تطرح على العقول تساؤلات ليس بالضرورة أن نجد لها إجابات فورية.. تكفى نعمة التفكير فيها وتكفى متعة محاولة الوصول إليها!.. مرة أخرى ليس الهدف من هذه الحكايات التسلية وإن بدت كذلك.. ونبدأ بعد ذلك بالحكاية الأولى! أخترت لهذه الحكاية عنواناً هو: «فى صف من يقف الله؟!» وهو سؤال جاء على لسان جنرال ألمانى خلال أحداث فيلم حربى شهير شاهدته فى فترة الستينات واسمه «أطول يوم فى التاريخ».. ولأن الحكاية من وجهة نظرى هى الأهم أو بمعنى أدق المعنى الذى تحتويه هو الأهم فقد اخترت عنوانها عنوانا للمقال كله.. أما الفيلم فيحكى قصة تحرير فرنسا من الاحتلال الألمانى على يد الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.. وقد تم هذا العمل من خلال غزو عسكرى بحرى لشواطئ نورماندى.. وهو المكان الذى لم يتوقعه الألمان. إنما كان تصورهم أن الغزو سيتم من خلال مدينة «كاليه» الساحلية ومن ثم فقد نقلوا إليها أفضل وأقوى قواتهم.. وعلى الرغم من أن الفيلم ينتمى إلى نوعية الأفلام التسجيلية أكثر منه فيلما روائياً فإن مخرجه نجح فى أن يجعل منه أهم فيلم عالمى عن الحرب العالمية الثانية.. من خلال اختياره لمجموعة كبيرة من أشهر النجوم العالميين فى ذلك الوقت.. ومن خلال سيناريو محكم لا تنقصه عناصر التشويق والإثارة.. ومن خلال اعتماده على الإبهار فى تصوير مشاهد المعارك الحربية.. والتفاصيل لا تهم، وإنما الذى يهمنى هو مشهد أحد القادة الألمان يتحدث لزميله فى مركز القيادة بمدينة برلين عن غزو نورماندى وعن الخسائر المتلاحقة للقوات الألمانية فى فرنسا وغيرها.. قال الجنرال الألمانى لزميله وكأنه يُحدِّث نفسه: فى أحيان كثيرة أتساءل.. فى صف من يقف الله؟!.. ولابد أن المعنى الذى كان يقصده الجنرال أنه كان مؤمنا بأن الله يقف فى صف الألمان ضد الحلفاء.. لكن الخسائر التى لحقت بالقوات الألمانية فى كل مكان جعلته يتشكك ويسأل نفسه: هل يقف الله فعلا فى صفنا أم أنه يقف فى صف الحلفاء؟!.. الجنرال الألمانى مثله مثل ملايين البشر يعتقد أن الحق يقف إلى جانبه وغيره على باطل.. وهذه هى المشكلة.. هذا هو بيت القصيد.. إننا جميعا.. أو على الأقل معظمنا.. يتعامل وكأنه على حق وغيره على باطل.. ولو أننا وضعنا فى احتمالاتنا أن يكون غيرنا على حق حتى لو اختلفنا معه لتغيرت أمور وأحوال كثيرة.. لكننا عادة لا نفعل.. ولهذا السبب تتحول خلافاتنا إلى أحقاد وكراهية ومعارك وحروب!.. وأنتقل إلى حكاية أخرى!.. يقول الدكتور منصور محمد حسب النبى فى كتابه «العلم الحديث.. الطريق إلى الله» الذى نشرته دار المعارف مؤخراً أن العلم يقرر أن «النملة» وجدت على هذه الأرض قبل الإنسان بعشرات الملايين من السنين.. ولها نظم اجتماعية رائعة.. فهناك ملكة على رأس هذا المجتمع، وعدد محدود من الذكور يقوم بعملية التناسل.. أما باقى أفراد القرية أو قل المملكة، تقوم بالأعمال المختلفة فمنها ما يسعى لجمع القوت.. ومنها ما يقوم بعمل الممرات وتشييد الأنفاق.. وأخرى تعد المخازن الواسعة لاستقبال المحصول.. أو تقوم ببناء غرف فوقها غرف كما يشاهد فى العمارات الحديثة!.. والأغرب من هذا أن هناك تخصصا.. فلكل فئة أعمالها التى تجيدها.. حتى الحراسات لها فرق.. ويتعاون النمل من أجل الجماعة.. فما أن تعجز نملة عن عمل ما كنقل حَبّة لا تقوى على حملها أو قطعة غذاء لا تستطيع جرها.. إلا وتركت المحاولة لتبحث عمن يعينها من أخواتها.. وما تمضى لحظات حتى تكون تلك الحبة فى طريقها إلى مخازن القرية بين نملتين أو أكثر.. وهناك أعمال تدل على أن النملة تملك عقلا راجحا فأحيانا يقوم النمل بنشر الحبوب التى خزّنتها ليعرّضها لحرارة الشمس بسبب رطوبة أصابتها وخشى فسادها.. فإذا جفت وأصلح مخازنها أعادها ثانية.. والعجيب أنه إذا حدث تغير فى الطقس وبدأت السحب تتجمع فإنه يعدل فى الحال عن مواصلة نشر حبوبه ويبدأ فى إدخالها بسرعة إلى مخازنها.. ويندر أن يخطئ فى تنبؤه هذا.. والأغرب من كل ذلك أن النمل من الذكاء بحيث استطاع أن يستأنس حشرة تدعى «المن» لكى يقوم بحلبها والتغذى على لبنها.. ذلك السائل الحلو اللذيذ الطعم!.. ويقول العلماء إن النمل توصل لاستئناسها قبل أن يتم استئناس أى حيوان أو طير!.. لا مقارنة بين حجم رأس الإنسان وحجم رأس النملة.. لا مقارنة بين عقل الإنسان وعقل النملة ومع ذلك يبدو النمل فى أحيان كثيرة أعقل من الإنسان وأكثر منه حكمة.. هل هناك تفسير؟!.. وإلى الحكاية الثالثة!.. استطاع الشاب النابغة «لويس باستير» الذى ولد عام 1822 أن يقدم للبشرية خدمة جليلة وأنا أنقل هنا عن كتاب الأستاذ أحمد سويلم «فى شبابهم صنعوا التاريخ».. استطاع أن يخترع اللقاحات والأمصال التى ساهمت إلى حد كبير فى تحصين الإنسان ضد المرض والموت.. ولد باستير وعاش فى باريس وكان فى مدرسته مثالا للذكاء والمثابرة وكان لديه حب استطلاع لا يتوقف ودائما ما كان يطرح الأسئلة حتى أن أحد المدرسين نبهه بقوله: دعنى أذكرك يا بنى بأن مهمة التلميذ ليست هى إلقاء الأسئلة بل الإجابة عنها!.. لكن باستير لم يتوقف عن إلقاء الأسئلة على نفسه وعلى غيره!.. وكثيرا ما سأل نفسه عن صحة نظريات العلماء الذين سبقوه.. فاكتشف أن كثيراً من هذه النظريات.. خرافات!.. مثل نظرية العالم فرجيل التى تقول إن النحل يمكنه أن يتخلق من جثة ثور ميت!.. وبهذا المنهج.. منهج التفكير الحُر المتحرر من أفكار الأجداد والأسلاف استطاع باستير بعد تجارب وأبحاث أن يستحضر اللقاحات المختلفة التى جنّبت البشرية خطر العدوى بكثير من الأمراض.. ومنذ عصر باستير والوفيات فى العالم تتناقص.. ويعود ذلك إلى فكرة اللقاحات والأمصال التى كان وراءها شاب نابغة.. لم يفعل أكثر من التفكير وإعادة النظر فى نظريات أجداده وأسلافه.. الذين يتحررون من أفكار أجدادهم وأسلافهم يتقدمون.. أما الذين يتمسكون بها حتى لو ثبت خطؤها فهم وحدهم الذين يتأخرون!.. وأنتقل إلى حكاية أخيرة!.. قبل أكثر من خمسة عشر عاما عشت تجربة فريدة.. قضيت ليلة كاملة فى إحدى الغابات بجنوب أفريقيا.. وخلال هذه الليلة رأيت العجب!.. كنا فى عربة مكشوفة نتابع فهدا أسود قام بوداع صغاره الذين بدوا من أصواتهم وكأنهم يتضورون جوعا.. كان الفهد يتحرك على مهل وفجأة تسمّر فى مكانه وراح يرهف السمع.. وأخبرنا مرافقنا فى العربة المكشوفة أن الفهد اكتشف صيدا.. ووجه ضوء الكشاف الذى يحمله ناحية المكان الذى تسمّرت نظرات الفهد عليه فرأينا غزالة تنعم بوجبة شهية من الأعشاب!.. ولمدة ساعة كاملة راح الفهد يتحرك فى دوائر وهمية ويدور ونحن نتابعه.. كان واضحا أنه يحاول أن يتجنب اتجاه الريح التى يمكن أن تحمل رائحته للغزالة فتنطلق هاربة.. وعندما اقترب منها بدرجة كافية داس لسوء حظه على بعض الأعشاب الجافة فأحدث صوتا هامسا لكنه كان كافيا لتحذير الغزالة التى انطلقت بسرعة هائلة ومن ورائها الفهد ونحن وراء الاثنين.. لكن بعد لحظات تخلى الفهد عن مطاردة فريسته بعد أن اكتشف أن سرعته لن تمكنه من الحصول عليها!.. ومر الفهد بجانبنا تماما وهو فى طريق العودة.. وأقسم أننى رأيت دموعا فى عينيه!.. أظنها دموع الحزن على صغاره التى ستبيت ليلة أخرى بدون طعام!.. وبدأت أدرك معانى أدهشنى أنها كانت غائبة عنى.. فالقتل فى الغابة ليس له إلا سبب واحد.. الجوع.. فالحيوان لا يقتل حيوانا لأن بينهما ضغينة أو لكى يسرق منه ماله أو لثأر بينهما.. الحيوانات لا تفعل ذلك أبدا.. البشر وحدهم هم الذين يفعلون!.. وانتهت الليلة وفى طريق العودة إلى المدينة انشغلت بسؤال لم أجد له إجابة: هل كنت فعلا فى الغابة.. أم أننى سأعود إلى الغابة؟!.. قلت وأكدت أن هذه الحكايات ليست للتسلية إنما هى مليئة بمعان كثيرة جميلة تستحق أن نفتح لها عقولنا متأملين.. فإذا فعلنا.. وإذا طال تأملنا فسوف نكتشف أن لها علاقة بالواقع الذى نعيشه.. أو هكذا أتصور!..