أكبر دليل على ارتباك المشهد السياسى أنه فى الوقت الذى يهتف فيه البعض بسقوط حكم العسكر ويطالبون بتسليم السلطة فورا لمجلس رئاسى مدنى.. يطالب البعض الآخر باستمرار العسكر فى الحكم لحين وضع الدستور أولا.. ومن ثم تأجيل الانتخابات الرئاسية.. المفارقة أن العسكر أنفسهم أكثر الناس تمسكا بتسليم السلطة لرئيس منتخب فى الموعد الذى حددوه من قبل وهو آخر يونيو الحالى.. أى بعد أيام قليلة.. والمفارقة الأكبر أن الذين يطالبون بمجلس رئاسى مدنى يعلمون أننا على موعد مع الرئيس الشرعى القادم بعد أقل من ثلاثة أسابيع.. ثم ما علاقة ذلك كله بالحكم الذى أصدرته المحكمة على الرئيس السابق ووزير داخليته وكبار معاونيه؟.. وكيف وهو الأهم يصل الأمر إلى حد القضاء على القضاء بهذه الطريقة؟.. وهل يبرر ذلك كله أننا نبحث عن حق “الشهداء”؟!.. وإذا كان ذلك صحيحا.. فأين حق مصر؟!.. و أبدأ بحكاية المجلس الرئاسى المدنى الذى يعبر بمنتهى الوضوح عن ارتباك المشهد السياسى إلى أقصى درجة.. فى أعقاب نتائج المرحلة الأولى ارتفعت أصوات تطالب باستبعاد أحمد شفيق ومن ثم تدفع بحمدين صباحى لدخول انتخابات المرحلة الثانية.. بعض الأصوات طالبت الدكتور محمد مرسى - الحاصل على المركز الأول فى المرحلة الأولى - بالتنازل لصالح حمدين صباحى (!!!).. وكان منطقيا أن تنتهى كل هذه المحاولات إلى طريق مسدود.. فتوقفت!.. وجاء يوم النطق بالحكم على الرئيس السابق ووزير داخليته وكبار معاونيه وأبناء الرئيس السابق.. وعندما انتهى رئيس المحكمة المستشار أحمد رفعت من النطق بالحكم بدا وكأننا كنا على موعد مع الفوضى!.. فجأة ارتفعت أصوات البعض تطالب بإلغاء الانتخابات وعدم استكمالها وتشكيل مجلس رئاسى يضم الدكتور محمد مرسى وحمدين صباحى والدكتور عبد المنعم أبوالفتوح.. وعندما تبين أن الدكتور مرسى وجماعة الإخوان عموما غير راضين عن مسألة المجلس الرئاسى.. تحولت المطالبات إلى مجلس رئاسى يضم حمدين صباحى وأبو الفتوح وخالد على.. وقاد الثلاثة المسيرات والمظاهرات مطالبين بإلغاء الانتخابات وتشكيل المجلس الرئاسى.. منهم بالطبع.. وكانت حجتهم أن ما حصلوا عليه من أصوات - مجتمعة - أكبر مما حصل عليه كل من الأول - الدكتور محمد مرسى - والثانى الفريق أحمد شفيق!.. وأصيب الرأى العام فى مصر بصدمة خاصة الذين أعطوا أصواتهم لحمدين صباحى وأبو الفتوح.. وظهرت أصوات تنتقد هذه الخطوة وتصفها بأنها محاولة من الذين خسروا أصوات الصندوق للالتفاف على إرادة الشعب!.. وزاد من صعوبة الموقف أن الدكتور محمد مرسى أعلن بوضوح رفضه لفكرة المجلس الرئاسى.. وكيف يتوقعون موافقته وهو على بُعد خطوة ونصف من مقعد الرئاسة؟!.. وعلى الرغم من أن الثوار فى ميدان التحرير راحوا يطالبون بالمجلس الرئاسى المدنى إلا أن الفضائيات أظهرت بوضوح رفض الغالبية العظمى للفكرة وانتقاداتها اللاذعة للذين يقفون وراءها.. ولعل ذلك هو ما دعا حمدين صباحى وأبو الفتوح إلى التصريح بأنهما يؤيدان فكرة المجلس الرئاسى لكنهما يرفضان الاشتراك فيه!.. الغريب أنه لا يزال هناك من يطالبون بمجلس رئاسى مدنى زاعمين أنه واحد من مطالب الثورة والثوار.. متجاهلين أن الفكرة تعنى استبعاد أصوات وإرادة ورأى أكثر من 50% من الذين صوتوا فى الانتخابات الرئاسية.. فبحساب الأصوات نجد أن مجموع ما حصل عليه الدكتور مرسى والفريق شفيق يزيد على 50% من أصوات الناخبين.. وهؤلاء بالقطع يرفضون فكرة المجلس الرئاسى.. فكيف تفرض الأقلية الخاسرة رأيها على الأغلبية الرابحة؟!.. ثم إن إيقاف الانتخابات فى هذه المرحلة وتشكيل مجلس رئاسى - لو افترضنا أن ذلك ممكن - هو نوع من العبث غير المفهوم.. فما هو الداعى لمثل هذا المجلس فى هذا التوقيت الذى اقتربنا فيه من الحصول على رئيس منتخب شرعى؟!.. ولا يزال هناك من يطالب بمجلس رئاسى مدنى.. ولا يزال هناك من يدفع فى هذا الاتجاه.. ولا يزال هناك من يعبث باستقرار مصر!.. *** أكثر ما يثير الدهشة فى ردود الفعل للأحكام التى صدرت ضد الرئيس السابق ووزير داخليته وكبار معاونيه وأبنائه بالطبع.. أكثر ما يثير الدهشة هو هذا الاتفاق غير المكتوب على إهانة القضاء!.. الفضائيات فى الحقيقة - خاصة قناة الجزيرة كما هو معتاد - لعبت دورا فعالا فى تجسيد هذه الإهانة عبر استضافتها لمن ينتقد الحكم ويوجه له سهام اللوم.. وعبر أخذ آراء الجمهور العادى غير المتخصص الذى كان يردد كالببغاوات - الانتقادات التى يسمعها!.. عدد غير قليل من النخبة وقعوا فى المحظور ولم يتوقفوا عن انتقاد الحكم بشكل لاذع.. وصل إلى درجة التشكيك فى نزاهة القضاء كله!.. حتى أعضاء مجلس الشعب.. اشترك بعضهم فى هذه المهزلة.. المفارقة أن ما يطالب به هؤلاء من إعادة للمحاكمة قد استجيب له من قبل أن يطالبوا به!.. فالنيابة العامة أعلنت فور الانتهاء من نطق الأحكام بالطعن عليها.. ومعنى ذلك أن المحاكمة ستعاد.. فى كل الأحوال ستعاد.. ورغم ذلك لا يزال هناك من يطالب بإعادة المحاكمة.. ولا يزال هناك من يدفع فى هذا الاتجاه.. ولا يزال هناك من يعبث باستقرار مصر!.. *** طالب ثوار الميدان - ومن هم وراؤهم بالطبع - بضرورة تطبيق قانون العزل السياسى فورا.. أى باستبعاد الفريق شفيق من العملية الانتخابية.. ليس سرا أن بعضهم يفعل ذلك من أجل الدكتور مرسى والبعض الآخر من أجل صباحى والبعض من أجل أبوالفتوح!.. لجنة الانتخابات الرئاسية لم تطبق قانون العزل الذى أصدره مجلس الشعب مؤخراً على الفريق شفيق واكتفت بإحالته إلى المحكمة الدستورية.. المحكمة الدستورية على وشك أن تقول كلمتها.. ولن تخرج هذه الكلمة عن ثلاثة احتمالات.. إما أنها لن تحكم بدستورية أو عدم دستورية القانون على اعتبار أن اللجنة الرئاسية ليس من حقها أخذ رأى المحكمة الدستورية.. وفى هذه الحالة ستعيد المحكمة الدستورية الكرة للجنة الرئاسية لكى تقرر استمرار شفيق أو عدم استمراره.. الاحتمال الثانى أن تحكم بدستورية القانون وفى هذه الحالة يخرج الفريق شفيق من الانتخابات وتعاد الانتخابات من جديد.. أما الاحتمال الثالث وأظنه الأقرب للتحقيق وهو أن تحكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون لأنه قانون «تفصيل» وليس قانوناً عاماً.. وعلى أية حال فقد أعلنت هيئة المفوضين - التى تستعين بها المحكمة الدستورية فنيا - أن قانون العزل غير دستورى.. المهم أنه فى هذه الحالة يستمر الفريق شفيق فى الانتخابات الرئاسية.. فى النهاية الكلمة للقانون وليس لرجل الشارع.. وفى كل الأحوال يطرح السؤال نفسه.. هل يجوز استبعاد مرشح من الانتخابات الرئاسية وهل يجوز تجاهل رأى ربع الذين أدلوا بأصواتهم من أجل قانون معيب يمثل بكل المقاييس فضيحة قانونية وأخلاقية؟!.. وفى النهاية أيضاً هل يجوز تجاهل رأى المحكمة الدستورية استجابة للذين يطالبون باعتبار القانون الفضيحة والمعيب.. دستورياً؟!.. *** المطالبات التى يدعمها المرشحون السابقون للرئاسة والذين خرجوا من السباق ليس لها أى سند قانونى.. إن لم تكن هى نفسها خروجاً على القانون.. كأن أصحابها يهتفون: الشعب يريد الخروج على القانون.. وليس لهذا كله إلا نهاية واحدة: الفوضى!..