كتبت : عفت السعيد ... لا يستشعر الإنسان قيمة الأشياء إلا عندما يمتحن باحتمال فقدها.. هذه حقيقة فلم استشعر قيمة المنصب الرئاسى للجمهورية الفرنسية ومستلزماته إلا عندما شعرت بأن المقعد الرئاسى قد ينسحب من تحتى.. بهذه الكلمات الموجزة بدأ ساركوزى خطابه الدعائى أمام مؤيديه و قبيل إجراء الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وكانت بمثابة محاولة منه لاستعادة شعبيته التى فقدها بسبب صفاته الشخصية وطباعه الحادة وعناده وممارساته الاقتصادية التى أوقعت البلاد فى أزمة مالية طاحنة ساهمت فى زيادة معدل البطالة بين الشباب، بالإضافة لعجزه عن تحقيق الأمن الداخلى، وهو ما فجرته حادثة تولوز الأخيرة وصاحب ذلك أيضاً تخلى حلفاؤه السابقون من القادة عنه وتأتى المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل على رأس هذه القائمة بعد أن أعلنت فى وقت سابق عن دعمها الواضح والصريح لساركوزى ثم تراجعت مؤخراً وأعلنت قبولها التفاوض بشأن المعاهدة المالية الأوروبية التى تقدم بها منافسه الاشتراكى فرانسوا أولاند باعتباره الرئيس الجديد لفرنسا والذى اقترح إضافة بند يسمح للمصرف المركزى الأوروبى بتمويل مشاريع تشجع على النمو الاقتصادى للدول المتعثرة بدلا من سياسة التقشف التى فرضتها ميركل كحل للخروج من أزمة منطقة اليورو الاقتصادية وقد حظى اقتراح أولاند بقبول عدد من المسئولين الأوروبيين وأسهم فى زيادة شعبيته وهدد استمرار التحالف الفرنسى الألمانى الذى استحوذ على معظم القرارات التى صدرت فى الأعوام الماضية وكانت سبباً فى توجيه النقد لسياسة ساركوزى الدبلوماسية والتى أفقدت فرنسا استقلاليتها التى عرفت بها بعد المرحلة الديجولية وجعلتها تقف نداً فى مصاف الدول الكبرى. وهذا يفسر لنا نتائج المرحلة الأولى للانتخابات والتى أظهرت تقدم أولاند على منافسه ساركوزى الذى ينتمى لليمين الوسط بنسبة لاتتجاوز 1,5% وهى نسبه ضئيلة متوقعة وسوف ترتفع إلى 9 نقاط فى المرحلة الثانية والتى ستجرى فى السادس من مايو لتحسم نتيجة الانتخابات لصالح أولاند كما أشارت بذلك نتائج الإستطلاعات وآراء الخبراء الذين تحدثوا عن خسارة ساركوزى لأصوات اليمين المتطرف والتى كانت سبباً فى فوزه فى انتخابات 2007 وذهابها لصالح مارين لوبان زعيمة حزب اليمين المتشدد والتى أعلنت تزعمها للمعارضة فى الحكومة القادمة بعد حصولها على المركز الثالث فى الدورة الأولى وبنسبة غير متوقعة بلغت 18% وهذه إشارة واضحة وجهتها لوبان لمؤيديها ويعد ذلك بمثابة إيذان بخسارة ساركوزى لمقعد الرئاسة لصالح منافسه أولاند. وقد حاول ساركوزى اللحاق بمنافسه عن طريق الدعوة لمناظرة علنية معه أمام الجماهير مستعيناً بكاريزمته ووعوده التى أكسبته أصوات اليمين المتطرف فى انتخابات 2007 بالإضافة لإعلانه عن خفض نسبة المهاجرين ولاسيما من ذوى الميول المتطرفة فى حين لعب أولاند على وتر الاقتصاد وقدم اقتراحه بخفض الإنفاق الخارجى وسحب القوات الفرنسية من أفغانستان ورفضه لانضمام تركيا لدول الاتحاد الأوروبى وكل هذه القرارات أسهمت فى استقطاب عدد كبير من مؤيدى ساركوزى الذين يرون أنه لم يف بوعوده السابقة وأنه يعمل لصالح الأغنياء فقط. فى حين يرى شباب الناخبين أن كل المرشحين العشرة والمتنافسين على مقعد الرئاسة تجاهلوا مشاكلهم الحقيقية وأن الانتخابات الرئاسية تحولت لصراعات شخصية وتصفية حسابات فلم يحرص المتنافسون على عرض حلول حقيقية وبرامج جادة بل اكتفوا بتاريخهم وتاريخ الأحزاب التى يمثلونها ولذا فقد خرج عدد كبير من الشباب إلى شوارع باريس فى تظاهرات رافضة للنخبة السياسية وللنظام السياسى وحملوا لافتات كتبوا عليها (هم لايمثلوننا) فى إشارة واضحة لظهور تيار رافض للأنظمة السياسية القائمة فى أوروبا والتى تأتى استجابة لدعوة أطلقها الفيلسوف الفرنسى ستيفان هيسل لعلها تلقى قبولاً لدى كل المسئولين الذين لم يتعلموا من دروس الربيع العربى.