«ريتشارد سورج» جاسوس من طراز فريد، فهو شديد الذكاء، مثقف، بارد الأعصاب إلى درجة مدهشة، ومنظم التفكير إلى حد كبير، ونظراً لأنه، ومنذ عمله لحساب السوفيت، لم يرسل إليهم معلومة واحدة خطأ، بل كانت معلوماته كلها شديدة الأهمية والخطورة، وحققت نتائج عظيمة، نظراً لقوة الشبكة التى أقامها فى اليابان، وصلاته القوية برموز المجتمع اليابانى، من سياسيين واقتصاديين وعسكريين، باعتباره مراسلاً صحفياً ألمانياً، على أعلى مستوى، ولهذا وضع السوفيت تلك المعلومة فى أهم خاناتهم، فور وصولها إليهم، خاصة أنها تؤكًَّد أن اليابان لا تنوى شن الحرب على روسيا، فى نفس الوقت الذى تعانى فيه روسيا من ضعف قواتها، أمام الجيوش النازية فى الغرب.. ولهذا اتخذ السوفيت ما عرف بأنه أخطر قرار فى الحرب العالمية الثانية على الإطلاق، ألا وهو سحب قواتهم من الجبهة اليابانية، وتوجيه ضرباتهم كلها للجبهة النازية.. وخلال شتاء روسى قاس طويل، شن السوفيت بكل قوتهم هجمات عنيفة على الجيش النازى الذى تمركًَّز خارج حدود موسكو فى خطأ تكتيكى بارز، مستغلاً حالة الإحباط النفسى، لدى جنود النازية، الذين لم يختبروا أبداً شتاءً بهذه القسوة، حيث انخفضت درجات الحرارة إلى ما يقل عن ثلاثين درجة مئوية تحت الصفر، وهذا مالا تحتمله ثيابهم العسكرية الانيقة، التى لم تعد لمثل هذا الطقس، مما أدى إلى إصابة عدد كبير منهم بما يسمى «عضة الثلج»، حيث تجمًَّدت أطرافهم، داخل الاحذية الجلدية الخفيفة، مما اضطر، فى معظم الاحيان، إلى بترها، كما كانت صدمتهم بالغة، وهم يرون بولهم يتجمًَّد، فور خروجه من أجسادهم، فى نفس الوقت الذى راح فيه رجال الكوماندوز السوفيت، فى ملابسهم البيضاء، التى تخفيهم وسط الثلوج، يشنون عليهم هجمات خاطفة، تبيد أعداداً كبيرة منهم، دون أن ينجحوا فى تمييز مهاجميهم، الذين ينعمون بالدفء، داخل ثياب من فراء كثيف، شأن من اعتاد مثل هذا الطقس الشتائى الرهيب، واستعد لمواجهته.. وبسبب معلومة «سورج»، انهار الجيش النازى، أمام تكثيف الهجمات السوفيتية، واضطر للتراجع، معيداً المشهد المأسوى لقوات نابليون بونابرت، التى هزمتها الثلوج الروسية القاسية من قبل، وتواصلت المطاردة للجيش النازى المحطم، عبر أوروبا، حتى انهارت ألمانيا، وسقطت برلين، وسقط معها الرايخ الثالث، الذى أشعل العالم كله.. وبهذا اعتبر ريتشارد سورج أعظم جاسوس فى التاريخ، ولقبّه خبراء عالم الجاسوسية بلقب «الأستاذ»، نظراً لما حققته معلومته الأخيرة من نتائج مدهشة.. وعلى الرغم من هذا، فقد ارتكب الأستاذ أكبر خطأ، فى نهاية حياته، وهو الخطأ الفادح الذى يقع فيه الجاسوس دوماً، إذا ما ترك نفسه لمشاعره وانفعالاته.. لقد صار واثقاً من نفسه، مزهواً بانجازاته، إلى حد التخلى عن نسبة كبيرة من الحذر، والاكثر من هذا، هو أنه وقع فى غرام راقصة تعر يابانية، وأقام معها علاقة طويلة.. وبينما كانت تلك الراقصة ترقد فى فراشه، تلًَّقى «سورج» تعليمات من قيادته السوفيتية، وبدلاً من أن يحرق الورقة كالمعتاد، اكتفى بتمزيقها، وإلقائها فى سلة المهملات الصغيرة، فى حجرة نومه.. والتقطت عينا الراقصة ما فعله، وربطته بعلامات الاهتمام الشديدة، التى ارتسمت على ملامحه، وهو يطالعها قبل تمزيقها.. ولأنها كانت تعمل سراً لحساب المخابرات اليابانية، فقد انتظرت حتى استغرق «سورج» فى نومه، وأفرغت سلة المهملات، وجمعت كل قطع الورقة.. وفى اليوم التالى، هاجمت المخابرات اليابانية منزل «سورج»، وألقت القبض عليه، بتهمة التخابر مع دولة معادية، فى زمن حرب.. ومع سقوط «سورج»، بدأت شبكة الجاسوسية التى أقامها فى التساقط، واحداً بعد الآخر، وتمت محاكمة «سورج»، وصدر الحكم بإعدامه، وعلى الرغم من قيام السوفيت بمحاولة لإنقاذه، عبر فريق كوماندوز خاص، فقد وصلوا متأخرين، بعد أن تم تنفيذ حكم الإعدام، والذى لم يؤجله اليابانيون طويلاً، لإدراكهم أن السوفيت لن يتخلوا عن جاسوس بهذه القوة.. وبسبب علاقة واحدة غير محسوبة، انتهت حياة أخطر جواسيس الحرب العالمية الثانية، لأنه تجاوز قواعد العمل الرئيسية.. وكما يحدث دوماً، شكك البعض فى موت «سورج»، وخاصة عندما غادرت الراقصة المسرح ذات يوم فى ذعر، مؤكًَّدة أن «سورج» كان بين الحاضرين، وانه عاد لينتقم منها، ولكن البعض عزا هذا إلى الأضواء الكاشفة فى مواجهتها، وإلى معرفتها بقوة الرجل، وشدة بأسه.. ولقد قامت روسيا مؤخراً بإصدار عدد من طوابع البريد، التى تكًَّرم الجواسيس الذين عملوا لحسابها، فى سابقة هى الأولى من نوعها، وكان أكبرها وأعلاها سعراً، هو ذلك الطابع، الذى يحمل صورة «ريتشارد سورج» أستاذ عالم الجاسوسية، كما وصفه السوفيت.. وتاريخ الحرب العالمية، فى هذا المضمار، يحمل عدة أسماء، كانت لها بصمة كبيرة فى عالم التخابر والجاسوسية، وليس (سورج) وحده، فمن أهم من تركوا بصمة واضحة فى هذا المجال، خلال الحرب العالمية الثانية «جيمس بوند».. ولهذا قصة أخرى.. مثيرة.