هناك أوقات فى عمر الأوطان يجب ألا ندعها تفلت من ذاكرتنا مهما مرت العقود، أو تبهت فى وجداننا مهما عاصرنا من أحداث، لأنها مشحونة بالعزة والكرامة الوطنية التى هى الزاد الأهم والمتجدد لعنفوان الأمم وتقدمها.. ولهذا يجب أن نلم بكل دقائق هذه الأوقات، نتحرى تفاصيلها، نبحث عن الرجال الذين ساهموا فى نسج تفاصيلها، ولا شك أن حرب الاستنزاف واحدة من هذه المحطات الفارقة فى تاريخنا العسكرى والوطنى والقومى. ومع المترجم الشهير طلعت الشايب الذى عايش لحظات من هذه الأوقات نتعرف على بعض الحقائق الجديدة والخطيرة. * أستاذ طلعت، نعرفك من خلال انشطتك الثقافة، وترجماتك المهمة، ولكننا الآن نريد أن نتعرف عليك بشكل أوضح.. ببساطة حدثنا عن بداياتك؟ ** أنا تخرجت فى كلية المعلمين - تربية عين شمس الآن بروكسى، عام 1962، وكان لابد أن اكون مدرسا هذا شىء وجوبى نحن عائلة 90% الأفندية الموجودين بها منذ منتصف القرن الماضى مدرسون، زهير الشايب مثلا ابن عمى والمترجم الشهير لوصف مصر كان مدرسا، ولهذا دخلت كلية المعلمين من أجل أن أكون مدرسا، وتخرجت عام 62 واشتغلت مدرس انجليزى فى مدرسة الورديان الثانوية بالإسكندرية حتى 1/1/1967، وهو ميعاد دخولى الجيش لأداء الخدمة العسكرية الاجبارية، وبعدها بستة شهور قامت حرب 5 يونيو 1967، وقد استمر وجودى فى القوات المسلحة حتى 1975. * إذن فأنت شاركت فى حرب 1973؟ ** مكثت فى القوات المسلحة أكثر من ثمانى سنوات، شاركت أثناءها فى الاستنزاف وفى حرب 1973 وبعدها أيضا.. وقد حصل لى شيئان فى هذه الفترة، تعلم اللغة الروسية لحساب القوات المسلحة، وعملت مترجما روسيا فى أجهزة القيادة العامة المصرية، رئاسة الأركان، إدارة المدرعات هيئة التدريب، هيئة العمليات، وقد ترجمت أكثر من كتاب عسكرى مهم جدا من الروسى إلى العربى موجودة للآن فى أكاديمية الدفاع وكلية القادة والاركان، منها كتاب اسمه المعركة الحديثة، معركة الاسلحة المشتركة، وكتاب رماية المدرعات، وكتاب عن الدبابات، وقد راجع هذه الكتب كمال حسن على الذى أصبح بعد ذلك مدير المدرعات ورئيس الوزراء، وبعد أن تخرجت فى القوات المسلحة عام 1975 ذهبت إعارة للكويت عملت أثناءها بالتدريس لمدة أربع سنوات، ثم إلى دولة قطر واشتغلت فى المؤسسة العامة لقطر للبترول فى الإعلام وفى الصحافة الثقافية، وقد تعاونت وأنا فى الدوحة مع رجاء النقاش الله يرحمه فى مجلة الدوحة خاصة فى الصفحة الأخيرة التى كان اسمها نافذة على الثقافة العالمية، وتعاونت مع جريدة أخبار الأدب وكانت حديثة الإصدار وترجمت لها فصولا من رواية أهداف سويف «عين شمس» وكان هذا هو أول ظهور لى فى مصر، وفى هذه الأثناء التقيت بمستشرقة سورية اسمها مارينا ستاك اعجبت بما اترجم، فطلبت منى أن أترجم لها حدود حرية التعبير فى مصر أيام عبد الناصر والسادات وصدر عن دار شرقيات، وكان اول كتاب لى كاملا يصدر فى مصر، واستكمالا لبقية التعريف بى اذكر أن من اهم الأعمال التى عملتها ولم يتم الاهتمام بها، ولم توزع للأسف فى مصر، إننى كنت المحرر الرئيسى لموسوعة مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الاسبق، وهى من 12 مجلدا، وأنا المحرر الرئيسى لها بالانجليزية والعربية صدرت عن دار الكتاب المصرى سة 2006 وللأسف الشديد هى غالية الثمن والكمية كلها بيعت فى ماليزيا وجنوب شرق آسيا. * اسمح لى أن اتوقف بك عند جزئية دراسة اللغة الروسية فى الجيش من أجل كشف تفاصيلها ومعرفة المزيد عن هذه الفترة! ** فى 1/1/1967 دخلت الجيش وفى 5/6 قامت الحرب، وانهزمنا كما هو معروف، كانت المهمة الأساسية والعاجلة للرئيس جمال عبد الناصر هى إعادة بناء القوات المسلحة أى الاهتمام بالتسليح والتدريب العسكرى وإعادة تنظيم للقوات المسلحة كلها مع بقية القوات العائدة من اليمن أيضا، فكان لابد اولا من تجنيد المؤهلات العليا كعساكر وجنود لاحتياجنا إلى فرد مثقف يعمل على أجهزة حديثة، ويتعامل مع أدوات اليكترونية وسلاح متطور، وكان سلاحنا فى ذلك الوقت معظمه صناعة روسية والتسليح كله روسى، ورأى عبد الناصر والقيادة العسكرية وقتها أن يكون المترجمون العاملون مع الخبراء والمستشارين الروس مترجمين مصريين، فاختاروا مجموعة من الشباب المصرى سواء من الضباط او الجنود الاحتياط لدراسة اللغة الروسية، فدرسناها فى كلية القادة والاركان المصرية على أيدى مدرسات روس متخصصات لتدريس اللغة للاجانب لمدة سبعة شهور، ست ساعات فى اليوم.. استطعنا فى هذه الفترة الوجيزة أن نشغل هذه الوظائف من أول 1968، أى بعد ان تخرجنا فى كلية الضباط الاحتياط أن نقوم بدور كبير ورائع مع الخبراء والمختصين الروس، حيث كنا نترجم شفهيا بين الخبير والمستشاريين الضباط المصريين، ونترجم كتب تدريب ونترجم محاضرات فى الوحدات، حيث كان عندنا خبراء ومستشارون فى كل الوحدات والتشكيلات المصرية، ولأننا كنا نترجم علما عسكريا، ونحن ضباط احتياط دارسين العلم العسكرى بالعربى، فكان من السهل علينا أن نلم بالمصطلحات والمسميات والأفكار واللغة العسكرية المطلوب نقلها، واشتغلنا كويس جدا، وانتشرنا فى كل القوات المسلحة وكل الإدارات، نحن كنا أول ناس تعلموا اللغة الروسية، كنا 70 طالبا، مابين ضابط وعسكرى، ثم تكررت الدورات ثم اشتغلت انا كمدرس روسى لدورات جديدة ولطلبة فى مدرسة جديدة فتحتها القوات المسلحة اسمها مدرسة المترجمين العسكريين، وللعلم فإن الكتب التى قمنا بترجمتها من الروسية وقتها مازالت تدرس حتى الآن لأنها تعتبر من أصول العلم، وبعد حرب 1973 تم تسريحنا كضباط أو جنود، كل واحد عاد إلى وظيفته الأصلية المدنية. * وكيف استقبلت شخصيا حركة طرد الخبرء الروس التى قام بها السادات؟ ** كنت وقتها مازلت فى القوات المسلحة، وفيها كلام كثير، ومختلفة فيها الآراء، استطيع أن أقول فى منتهى الصراحة إن الروس كانوا مفيدين جدا لنا فى الفترة التى كانوا بها فى مصر وبالنسبة للتدريب ورفع الكفاءة القتالية والتسليح واعداد الجيش المصرى، نحن حاربنا فى 73 بالسلاح السوفييتى، أما أن السادات دخل فى خلافات سياسية معهم وبعد الحرب يريد أن يحل سياسيا، أو أنه استدرج للرمال الناعمة عن طريق هنرى كيسنجر،او أنه عملها حرب تحريك وليس حرب تحرير فهذه قصة أخرى، يتدخل فيها السياسى مع العسكرى مع رؤى مختلفة. * قصدت معرفة إحساسك أنت وقراءتك للحدث؟ ** كان المشهد ظالما وصادما جدا، لدرجة أن الأمريكان أنفسهم اعترفوا أن السادات أعطى لهم أكثر مما طلبوا أو تخيلوا أو توقعوا. * البعض قال لى عنك عملت مترجما عسكريا فى روسيا لسنوات؟ ** لم يحدث، ولم أسافر روسيا لتعلم اللغة لسبب طريف، أننى كنت من العشرة الأوائل فى الدفعة الأولى التى تقرر تعليمنا اللغة الروسية، وتصادف ان كان هناك مؤتمر للفريق محمد فوزى وزير الحربية وقتها، وكان فيه جنرال وهو كبير الخبراء الروس فى مصر اسمه جنرال كاتسيكن، وقمت انا أثناء هذا المؤتمر بترجمة كلام الجنرال، وكان من المفروض أن يسافر العشرة الاوائل منحه الاتحاد السوفييتى ولكن الفريق فوزى عندما رأى الاسماء المقرر سفرها، سأل أليس هؤلاء هم أولادنا الضباط الذين كانوا يترجموا أمامنا فى المؤتمر، هم كويسين ولا داعى لسفرهم، لأن القوات المسلحة وقتها كانت تحتاج مترجميها بسرعة وكان مستوانا بالفعل جيدا، وألغى سفرنا. * الفترة التى امتدت من بعد النكسة حتى بعد النصر فى 73 لم تكتب بصدق حتى الآن فهل عن قصد أم إهمال؟ ** الحقيقة أن هذه الفترة تحديدا وإعادة بناء القوات المسلحة أتمنى أن تتاح لى فرصة كتابتها، فهى فترة مجيدة فى تاريخ الشعب المصرى والعسكرية المصرية بعد هزيمة 67، واعادة البناء مرورا بالصمود وحرب الاستنزاف حتى 6 أكتوبر 73 هى فترة وطنية وملحمة بطولية جبارة، عايشتها يوما بيوم مع كل القوات المسلحة العسكرية جنودا وضباطا كل فى موقعه، عايشت رفع الكفاءة القتالية وإعادة التدريب والتسليح والحقيقة أن كتابة هذه الفترة تحتاج إلى تفرغ كامل وموافقات من جهات كثيرة وخلو بال ووقت أتمنى أن تتوافر لى. * لكن هناك من هاجم وشكك فى أهمية وقيمة حرب الاستنزاف هذه؟ ** من الآخر ودون لف أو دوران كان الغرض من قبل هذه الكتابات هو الهجوم على عبد الناصر شخصيا، ومحاولة النيل منه والتقليل من جهده وانجازه، تمشيا مع الاوضاع المستجدة فى المنطقة، وإرضاء للحاكم الجديد وتملقا له، ولكن فترة حرب الاستنزاف كانت فترة حرب كاملة استنزفت إسرائيل استنزافا تاما، ولم تكن إسرائيل قادرة على الاستمرار، والحقيقة والانصاف يقتضيان الاعتراف بأنه طوال ثلاث سنوات كاملة منذ هزيمة 67 وحتى وفاة عبد الناصر فى 70، لم يكن هناك من هم رئيسى عنده وعند العسكرية المصرية كلها إلا رد الشرف المصرى - والجهد الذى بذل فى سبيل ذلك يفوق التصور والوصف من أول تجنيد المؤهلات العليا كجنود ورفع الكفاءة العسكرية والقتالية للضباط إلى الروح المعنوية العالية إلى الانضباط الذى فرضه الفريق محمد فوزى وسعد الدين الشاذلى إلى القيادات المصرية كلها التى كانت تتصرف بثأر شخصى قبل أن يكون ثأرا وطنيا وقومى، كنا وقتها جميعا فخوريين وفرحانين إننا فى القوات المسلحة وأننا سنحارب ونستشهد، هو فيه حد يكون فرحان بأنه حيحارب وحيموت، كنا هكذا وقتها.