إن التراث هو ضمير الأمة وتاريخها وهو المعبر عن أصالة الأمم وعراقتها، لذا فالمرء يأسف لإغفال البعض منا الدور التنويرى الذى لعبته ومازالت تقوم به مصر فى محيطها العربى والإسلامى. من منا كان يحلم أن تحوى رفوف مكتبته نفائس وروائع التراث العربى دون عناء؟.. كنوز المعرفة صدرت من مؤسسات ثقافية اشتركت معا فى مهرجان دائم أنارت شعلته التنويرية السيدة الأولى لها منا الشكر والامتنان ولنا منها الوعد بمواصلة العطاء. لقد امتلأت خزائن المثقفين فى مصر والعالم العربى بروائع التراث فمن روائع العصر المملوكى كالنجوم الزاهرة لابن تغرى وبدائع الزهور لابن إياس وصبح الأعشى للقلقشندى إلى المقدمة وتاريخ ابن خلدون ومن الحيوان للجاحظ وعجائب المخلوقات للقزوينى إلى ألف ليلة وليلة. وكانت ليلة من الألف ليلة تلك التى جلسنا فيهامعا مجموعة من الأصدقاء يجمعهم حب الجمال والثقافة وشاركنا فيها أخى الأصغر تباعدنا مراحل العمر الأولى وهو الغيور على دينه والمحب لوطنه ورغم ابتعاد كل منا عن الآخر فإن الكثير من الثوابت يجمعنا. كان لصدور الكتاب مفاجأة سارة لكل مثقف نشرها الغيطانى مصورة عن طبعة بولاق صدرت عام 1825 ميلادية وقام بتصحيحها الشيخ محمد قطة العدوى.. والشيخ أزهرى كان يعمل كبير المصححين والمراجعين بمطبعة بولاق وهو الذى قام بتصحيح كتاب الفتوحات المكية لمحيى الدين بن عربى وكنت سعيدا بإهداء أخى نسخة من هذا العمل الرائع. وفى فجر اليوم التالى اتصل بى أحد الأصدقاء وطلب منى أن اقرأ عناوين الصحف التى صدرت منذ ساعات كان الخبر فى صدر الصفحات الأولى للعديد من الصحف «دعوى حسبة تطالب بمصادرة كتاب ألف ليلة وليلة» وحسب (مجاهد) و(الغيطانى) بتهمة خدش الحياء العام وهى دعوى تقدم بها عدد من المحامين يطلقون على أنفسهم (رابطة محامين بلا قيود). على الفور هاتفت أخى الأصغر فهو محام وقد يعرف البعض وفوجئت وسمعت بآخر ما كنت أتوقعه بأنه هو (أخى) صاحب الدعوى مع عدد من المحامين. تذكرت أنى احتفظ بنسخ كثيرة لأسطوانة شهر زاد رائعة ريمسكى كورسا كوف الموسيقية هممت بسماع أروعها لأوركسترا برلين ألفيلهارمونى بقيادة المعجزة هربرت فون كاريان، كم تربت أجيال على سماع هذا العمل الرائع. تطلعت بأسى لرفوف مكتبة تحوى (ليالى ألف ليلة) رائعة نجيب محفوظ (أحلام شهر زاد) لطه حسين و (شهر زاد) لتوفيق الحكيم، لقد خيمت الليالى على حياتنا وزماننا الجميل. إذ كان نقل الكفر ليس بكفر فما لنا إذا كان المنقول كنوزا معرفية لا حدود لها أنارت العقول شرقا وغربا. ليست كتب التراث هى التى تحتاج إلى الحذف والتعديل تحت دعاوى أخلاقية أو مذهبية، وإنما تلك التى تحض على العنف والكراهية وإقامة الخلافة وازدراء الوطن والأمة. كنت سعيدا عندما أهديته كتاب ألف وليلة وليلة للدكتورة سهير القلماوى موضحا الحرية الكاملة له فى تفسير المأثورات وفهمها على النحو الذى تيسره له قدرته، لكن هذا التفسير يكتسب الثقة عندما يتبناه الدارسون والعلماء فهذه رسالة الدكتوراه لسهير القلماوى بإشراف عميد الأدب العربى. حين وقف كعب بن زهير يطلب عفو النبى العظيم عليه السلام فى قصيدته المعروفة ب (بانت سعاد) والتى استهلها بأبيات غزلية سبعة لم ينكر النبى بيتا واحدا منها بل وهبه بردته ولم يقف لينكرها عليه أو ليصادرها فهو يعلم بأن غزله فى مستهل قصديته إرث أصيل فى أعراف القصيدة العربية. وخذ مثلا ديوان (ترجمان الأشواق) لمحيى الدين بن عربى وصحح له كما ذكرنا سالفا الشيخ قطة العدوى كتابة الفتوحات المكية.. احتوى الديوان على أبيات غزلية وتجليات صوفية عشق إلهى بينه وبين ربه.. اختلف معه واتفق فقهاء عصره، ولكن لم يصادروه. كثير من كتب التراث عرضت موضوعات جنسية بألفاظ وعبارات أكثر انكشافا مما ورد فى ألف ليلة وليلة كان للجرأة التى تحلى بها د. مجاهد والكاتب الكبير جمال الغيطانى فى إعادة إصدار كتاب ألف ليلة وليلة مذيلا بالحكم القضائى 1986 - ثم إصدار كتاب ألف ليلة وليلة للدكتور عميد الأدب العربى فى طبعة أنيقة- ثم إصدار كتاب الإلمام أو مرآة العجائب للنويرى السكندرى وفيه من الألفاظ الجنسية خصوصا فى جزئه الرابع ما يفوق تلك الألفاظ التى حواها كتاب ألف ليلة وليلة كل هذا يحسب للقائمين على هذا الصرح العملاق وهو قصور الثقافة الجماهيرية التى أصدرت ومازالت تصدر روائع الأدب والتراث المصرى والعربى. إن إصدار الهيئة العامة للكتاب كتاب الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى وترقب إعادة طبعه مرة أخرى ضمن مشروع إعادة طبع كنوز مكتبة الأسرة لهو خير شاهد على الدور التنويرى الذى تقوم المؤسسات الثقافية المصرية.