أصبح من السهل أن تكون كاتباً يُشار إليه بالبنان، وتنال أرفع الجوائز، وتحتل صفحات الجرائد وشاشات التلفزة، ولكن من الصعب أن تكون إنسانا ينال حب واحترام أناس لم يسعفهم القدر ليجتمعوا بك فى مكان واحد، ولم يكن بينكم ما يجمع أصحاب المصالح والمكاسب الشخصية المتبادلة. ومن الممكن أن تقع تحت الحصار الفكرى وتخضع لتهديدات القتل، وقد تفقد أحدا من أحبابك على يد الظلاميين، ولكن ليس من السهل أبدا أن تتعايش مع من يصافحونك وعلى أيديهم دماء شهداء الثورة وشهداء الفكر. أشياء كثيرة من الصعب أن تحققها بمفردك وخاصة إن كنت تعيش فى المنفى بعيدا عن وطنك الذى لم يدرك قيمتك العالية، بينما تجد أن هذا المنفى يعطيك قدرا وددت يوما أن تنال بعضه فى وطنك الذى كعادته لا يحفل بالأنبياء. «سينو» وحده فعل هذا «واسينى الاعرج» هذا الروائى والأستاذ الجامعى فى السربون والحائز على أرفع الجوائز الأدبية حقق المعادلة الصعبة حافظ على إنسانه الطفل بداخله، فهو بيننا «سينو»، يضج بضحك طفولى عندما مازحته بأكثر الكلمات غرابة من الممكن أن يجعلها روائى على لسان بطلة رواية من أجمل أعماله «أنثى السراب» قائلة: يا «مهبول» هذه الكلمة التى تكررت مرارا فى روايته لتأخذ بعدا وجدانيا مفعما بالعشق هكذا هو واسينى، صادق القلم والقلب والكلمة، تجلى صدقه فى أعماله، فلم يتوار خلف شخصياته، بل كان بشخصه وفكره واسمه الصريح مشاركا البطولة مع شخوصه كان فى شرفات بحر الشمال وسيدة المقام وأنثى السراب كان بفكره الذى استوعب تجاور الحضارات لا صراعها، ليتجاوز عقد الماضى فى روايته الأخيرة التى حاز عنها جائزة زايد للآداب (كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد) هذا العمل الذى وكما أعاد به الأمير عبد القادر الجزائرى إلى الحياة كبطل من البشر، فقد أعاد به أيضا الأمل والحياة إلى الأطفال المرضى بالسرطان عندما تنازل عن حقوقه لصالح جمعيات الأطفال صرعى السرطان. واسينى الأعرج الذى تخلى عن ريع عمل من أجمل وأكمل ما أبدع، رفض أن يتولى وزارة من الوزارات فى بلده حفاظا على مواقفه التى لم يقبل أن تخضع للتغيير أو للتدجين مثلما فعل غيره:«لا رغبة لى فى ممارسة السياسة المحضة. أما أصدقاء الطريق أراهم اليوم يركضون كى يقتنصوا حقائب وزارية أو أقل منها شأنا، غيّروا اتجاهاتهم كلّيا». فضل «واسينى» أن يكون قلما وقلبا ينثر المعرفة جنبا إلى جنب مع الحب الذى تلمحه فى كل حديث حياتى أو رسالة قصيرة. وإن لم تكن قارئا لأعماله فلن تفوتك فرصة القرب من هذا القلب الذى رفض الخضوع للمرض متحديا النهاية التى كان قاب قوسين أو أدنى منها. قام «سينو» ليكتب خلوده مرات ومرات:« أوصلتنى التجربة مع الموت إلى حال من فقدان الوزن، و لم يعد يعنينى كثيرا الموت و لا أصبح يخيفنى هو مرحلة فقط، ما يخيفنى فعلا فيه هو أن يباغتنى وأنا بعد أريد أن أكتب أكثر، أريد أن أقول أشياء كثيرة قد يحرمنى من تلك اللذة وتلك الرغبة فى البوح». «فعلا كانت السماء الممطرة بالنسبة إلى هى الكتابة، هى التى أنقذتنى، كنت فى سيدة المقام: أطلب من الله أن يبقينى حيا حتى أتمها، فكنت أتحرك فى المدينة مغيّرا الشوارع والأمكنة وعندما أتممتها، حمدت الله، وبدأت رواية أخرى هى: ذاكرة الماء «هكذا كانت الرغبة فى الحياة مرتبطة بالكتابة عندى و كل ما كتبته من التسعينات إلى اليوم هو رهان على الحياة.. حياة المدن». وهكذا تعود واسينى فى أعماله على أن يتعاطى التاريخ، يخرجه متأدبا فى حلية روائية، يعيد إلى الأذهان ما تعودت على تجاهله. ليكون نسيج العمل الروائى لديه مزيجا من اللحظة التاريخية بتداعياتها السياسية والاجتماعية، مع لمسة ابداعية فنية يمزج فيها الحب بالثورة، والعنفوان بفساد مناضلين الغفلة الذين تكالبوا على نهش الوطن بعد أن تحرروا من عدوهم الخارجى، ليتخذوا من رفقاء الأمس أعداءً يصوبون نحوهم أسلحة غنموها من حرب التحرير قصص الحب كانت وسيلة «واسينى» الأثيرة لتمرير أفكاره وخبرته عن سنوات الكفاح المسلح مع الإشارة إلى الفساد الأخلاقى والإدارى فيما بعد. تصالح واسينى مع نفسه ومع الحياة ومع المنفى على الرغم من تراث الوجع الذى كان إرثه الوحيد من وطن وقع تحت الاحتلال أكثر من مائة عام، وكان نصيب واسينى أبا شهيدا فى ثورة 1959، ثم وبعد التحرير كان إرثه أصدقاء حوكموا واخترقتهم رصاصات الظلم لأنهم من زمرة الذين يشتغلون بالكتابة. ومثلما لم يقو عليه المرض، لم يقو عليه الظلاميون الذين وضعوه على قائمة الاغتيالات فى بداية التسعينات مثل العديد من حملة منارة الثقافة والتنوير ويستمع واسينى بنفسه إلى خبر اغتياله فى الإذاعة ويراه منشورا فى الصحف، ليعلم أن الموت قد تخطاه إلى بريء آخر كان كل ذنبه مشابهته «واسينى الأعرج» فى الاسم: « واسينى الأحرش» ولربما بعض الملامح. واسينى هذا المولود صباح عيد الأضحى حاملا الفرح ليحمل اسم «سيدى محمد الواسينى»، هو نفسه واسينى الانسان الذى لم ينزلق فى كبوة المثقفين عندما تنابزوا بالألقاب إثر مباراة كرة قدم قائلا: «إن مصر ليست عدوًا للجزائريين، ولا يوجد من بين ال80 مليون مصرى عدو واحد لنا «لا أدرى لماذا نربط العلاقات الثقافية بأزمة مصر والجزائر، والتى تسببت فيها الرياضة»، ومصر فى النهاية ليست عدواً لنا إنه موقفى الذى وقفته دائمًا منذ بداية الأزمة المصرية الجزائرية، وقد شتمت عليه، ولكنى لست مهتمًا فأنا مقتنع بموقفى، ولم أدخل فى أى مهاترة ضد الشقيقة الكبرى هذا هو «واسينى» الإنسان، أما «واسينى» الروائى والدكتور الجامعى فلا يخفى على أحد.