تابعت كقارئ الحملة الشرسة العنيفة التى تعرضت لها صحيفة الأهرام على أثر نشرها لصورة الزعماء الخمسة الذين اجتمعوا فى واشنطن لإطلاق عملية المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. بعد أن غيرت من ملامح الصورة فوضعت الرئيس مبارك فى مقدمة الزعماء الخمسة.. فى البداية كان انطباعى - كقارئ أيضاً - أن صحيفة الأهرام ارتكبت خطأ فظيعاً شنيعاً ليس له اسم آخر إلا التزوير والتدليس.. وأنها فعلت ذلك مجاملة للرئيس مبارك.. ثم كان لابد وأن تفرض علىَّ طبيعتى المهنية اختبار هذا الانطباع فرجعت إلى الصور والكلمات والتفاصيل.. ووجدت أن الخطأ الشنيع الفظيع لم ترتكبه صحيفة الأهرام وإنما ارتكب فى حق صحيفة الأهرام!.. هل أدخل على الخط وأكتب رأيى؟!.. اخترت الصمت عملاً بمبدأ “أهل مكة أدرى بشعابها”.. وقد قام أهل مكة بواجبهم.. الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام والأستاذ أسامة سرايا رئيس التحرير.. كتبا وتكلما وأوضحا.. وكان مفترضا أن يقف الأمر عند هذا الحد.. لكننى اكتشفت أن الحملة الشرسة العنيفة لم تتوقف وأن هدفها تكريس فكرة أن صحيفة الأهرام لم ترتكب خطأ وإنما خطيئة لا تغتفر!.. ثم اكتشفت أن المسألة لها أبعاد أخرى وأنها أكبر من خطأ وصورة وصحيفة ورئيس تحرير.. ولم أعد أطيق الصمت!.. وإذا كنت قد اخترت عدم الصمت.. وإذا كان الكلام ضروريا ولازما.. فلعله من المناسب أن تكون البداية من سؤال أساسى وملح.. هل نشر الصورة على النحو الذى نشرته بها صحيفة الأهرام خطأ مهنى أم اجتهاد صحفى؟.. أعتمد فى الإجابة على عدد من الملاحظات التى أرجو أن تقودنا إلى هذه الإجابة. ? صحيفة الأهرام لم تنشر الصورة «المعدلة» فقط وإنما نشرت فى الواقع صورتين.. الأولى الواقعية وقد نشرتها كما هى بتاريخ 3 سبتمبر تحت عنوان لخبر كبير يقول: انطلاق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. أما الصورة المعدلة والمنشورة بتاريخ 14 سبتمبر فقد نشرت كصورة أقرب للوحة فنية تخدم تقريرا أو موضوعا تحليلياً كتبه الدكتور عبدالمنعم سعيد والدكتور محمد عبد السلام بعنوان «تفاصيل التحول من المحادثات التقريبية إلى المفاوضات المباشرة». وليس منطقيا أن الأهرام نشر الصورة المعدلة لكى يغش القارئ ويضحك عليه.. أولاً لأنه سبق له نشر الصورة الأصلية قبل المعدلة بحوالى 11 يوما.. وثانياً لأن الاختلاف كبير بين طريقة نشر الصورتين.. الأولى (الأصلية) نشرت كما هى بكل تفاصيلها وتحتها خبر.. أما الصورة المعدلة فقد اختفت منها كل التفاصيل فيما عدا السجادة الحمراء التى كان الزعماء يسيرون فوقها والتى تعمد صانع الصورة تركها كأرضية وحتى لا يبدو الزعماء معلقين فى الهواء!.. ولابد أنها نشرت على هذا النحو لتخدم فكرة الموضوع وهى أن مصر بقيادة مبارك سيكون لها دور كبير فى مفاوضات شرم الشيخ. ? إذا كانت قواعد المهنة تقتضى نشر الصور الواقعية للأخبار والموضوعات الخبرية فإن قواعد المهنة لا تمنع من نشر صور «تفصيل» بنحو يخدم الموضوع سواء كان مقالاً أو موضوعاً تحليلياً.. وهذا بالضبط ما التزمت به صحيفة الأهرام عند نشر الصورتين.. ? إن كثير من الصحف والمجلات المحلية والعالمية تنشر صورا معدّلة باستخدام الكمبيوتر.. صوراً ليست واقعية وإنما يتم تعديلها وتغيير ملامحها لتخدم الفكرة التى يتضمنها الموضوع. ? الصورة المعدلة التى نشرتها الأهرام خالية تماماً من كافة تفاصيلها.. ثم هى تحمل عنواناً مكتوباً بخط اليد (الطريق إلى شرم الشيخ) كما تحمل توقيع صاحبها.. وبذلك فإن الصورة الخالية من التفاصيل، بالإضافة إلى العنوان والتوقيع.. مجرد تكوين فنى مقصود ومتعمد لخدمة فكرة محددة تم التعبير عنها بالكلام المرفق بها: مصر بقيادة الرئيس مبارك تستضيف اليوم بشرم الشيخ جولة جديدة من المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ? إن الفارق كبير وهائل بين الهدف من نشر الصورة الأصلية ونشر الصورة المعدلة.. الصورة الأصلية صورة تنقل الواقع كما هو وتخدم الخبر كما هو.. أما الصورة المعدلة فهى تخدم رأياً يمثل اجتهادا من صاحبه وليس هناك ما يمنع أن تمثل الصورة نفسها اجتهاداً من صاحبها مادام يتصور أنه بهذا الاجتهاد يخدم فكرة الموضوع.. ? يزعم البعض أن اللجوء إلى الرسم فى حالة رغبة صاحبه التعبير عن فكرة وخدمتها هو العمل المهنى الصحيح وليس تعديل الصورة بالكمبيوتر.. الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين كتب مقالاً يحمل هذا المعنى بعنوان خطأ الأهرام يوم 24 سبتمبر يقول فيه: قد يكون صحيحا أن المسئول التنفيذى عن هذا الخطأ كان سيضع صحيفته فى موقف أفضل بكثير، لو أنه اعتمد الرسم بدلاً من إعادة تركيب صورة معروفة للتعبير عن قناعته بأن مصر تقود فى مفاوضات شرم الشيخ موقفا واضحا من قضية الاستيطان.. لكن جل من لا يخطئ خاصة إذا توافر حُسن النيات.. يحسب للأهرام ورئيس تحريرها ورئيس مجلس إدارتها بالطبع نشر موضوع لأحد كُتابها على صفحات الأهرام.. يقر فيه بخطأ الأهرام.. لكن ذلك ليس موضوعنا وإنما كلام الأستاذ مكرم هو الموضوع.. وإذا كنت أقر بأن الأستاذ مكرم يمثل قامة وقيمة فى الصحافة المصرية.. وإذا كنت أكن له على المستوى الشخصى كل الاحترام والتقدير فإن ذلك لا يمنع من أن أخالفه الرأى، وأقول إن الاعتماد على توضيح فكرة بالرسم فى الماضى لا يمنع من الاعتماد على الكمبيوتر فى الحاضر.. ولو أن الكمبيوتر كان موجودا قبل ثلاثين سنة فى الصحف المصرية، لكانت الرسومات التوضيحية قليلة جداً ولكان من الطبيعى أن يلجأ أصحابها للاعتماد على الوسيلة الأحدث.. الكمبيوتر.. ? من السذاجة بعد ذلك كله أن يتصور أحد أن تقدم زعيم أو تأخره وسط مجموعة من الرؤساء فى صورة صحفية يحدد مكانته وقيمته.. فالصورة الفوتوغرافية تسجل لحظة.. لحظة قصيرة جداً.. قد يتصادف فيها أن تتقدم قدم أو تتأخر.. فهل تقيم مكانة وقيمة زعيم لأن قدمه تقدمت أو تأخرت؟!.. ولهذا السبب فإن صاحب الصورة الذى وضع الرئيس مبارك فى المقدمة.. لم يفعل ذلك إلا لتوضيح فكرة أن مصر سيكون لها الدور الأكبر فى المرحلة القادمة.. وليس كما زعم الذين هاجموا الأهرام لأنه أراد أن يجامل الرئيس مبارك.. انتهت الملاحظات التى أتصور أنها تضع نقاطا كثيرة فوق حروف أكثر.. وإن كان ذلك لا يمنع من أننى أعترف بأن المسألة تحتمل الاختلاف فى وجهات النظر.. لكن ما حدث لم يكن اختلافا وإنما كان ذبحا وتجريحا ومحاولة ليس فقط لضرب الأهرام ورئيس تحريرها وإنما النظام كله!.. *** فى الوقت الذى يؤكد فيه مسئولون إسرائيليون أن اختيار شرم الشيخ كمكان للمفاوضات المباشرة عرفانا بجهود مصر ورئيسها لتحقيق السلام.. يسخر بعض المصريين من المعنى ويتهكمون على قيمة مصر ورئيسها ويدللون على ذلك بأن الأهرام لجأت لتزوير صورة لإقناع الرأى العام بقيمة مصر ودورها.. وكتب البعض يقول معلقا على صورة الأهرام المعدلة: إن النظام فى مأزق وما معناه أن الصورة المعدلة هى محاولة لإخراجه من هذا المأزق!.. وعلى الرغم من أن الأستاذين الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام وأسامة سرايا رئيس التحرير كتبا ووضحا حقيقة الموقف.. إلا أن الهجوم لم يتوقف ليس على الأهرام وحدها وإنما على الصحافة القومية التى لا تحترم القارئ والتى تفقد مصداقيتها يوما بعد يوم.. فى 19 سبتمبر كتب الأستاذ يسرى فودة فى صحيفة المصرى اليوم يقول: نتحدث عن جريمة.. ليس فقط من الناحية الصحفية بل - وهذا هو الأهم - من الناحية القانونية الجنائية.. نحن نتحدث عن جريمة نصب واحتيال.. كان من نتائجها المباشرة تشويه سمعة ثلاثة أطراف ضخمة.. أولها أعرق مؤسسة إعلامية فى مصر والعالم العربى وثانيها أكبر رأس فى البلد.. وثالثها البلد كله عن بكرة أبيه أمام أعين العالم.. وأترك للقارئ الحُكم على هذا الكلام فى ضوء الملاحظات التى ذكرتها.. وإذا كان لى نفس حق القارئ فإننى أقول: إنه ليس أكثر من مبالغة مقصودة ومتعمدة لضرب الأهرام والصحافة القومية.. ومحاولة للوقيعة بين الصحافة القومية والرئيس مبارك.. ثم استهانة بعقول المصريين فمن الذى يقول إن سمعة بلد تشوهها صورة صحفية؟!.. ثم لماذا لا تطبق «المصرى اليوم» التى تقود حملة الهجوم على الأهرام.. لماذا لا تطبق نفس معايير المصداقية على نفسها؟!.. قبل عام ونصف العام تقريباً نشرت المصرى اليوم موضوعاً فى صفحتها الأولى تحت عنوان «انفراد» وقالت فيه إن المصرى اليوم تنفرد بنشر مرتب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومعه صورة رسمية لشريط تفاصيل المرتب.. وعلى الفور تذكرت أننى قرأت نفس الموضوع بنفس الصورة من قبل.. وسألت زملائى فقالوا لى إن مجلة أكتوبر نشرت نفس الموضوع قبل نحو 4 سنوات. وتحمس زملائى لنشر موضوع يفضح «انفراد» المصرى اليوم لكننى رفضت وقلت لهم إن خطأ ارتكبه صحفى بجريدة ليس مبررا لاغتيال سمعة الجريدة.. واكتفيت بخطاب يحمل صورة للموضوع الذى نشرته أكتوبر أرسلته للأستاذ مجدى الجلاد رئيس تحرير المصرى اليوم.. ولم أتلق ردا.. ولم تشر صحيفة المصرى اليوم إلى خطئها!.. *** لم أكتب للدفاع عن «الأهرام» أو للهجوم على «المصرى اليوم» لكننى فقط أردت أن أوضح للقارئ حقيقة قضية استخدمها البعض للهجوم على الصحافة القومية وعلى النظام.. وليس معنى أن تكون معارضا أن تشوه كل من.. تعارضه!..