تشكل مراكز الثقافة الأجنبية، إلى جانب المؤسسات الأهلية والمستقلة، المتنفس الحقيقي للثقافة والفنون في مصر، وتقود هذه الكيانات حركة الانفتاح على العالم من خلال التظاهرات المحلية والدولية التي تنبني على الطرح الثقافي والفني الجريء الحر، المتحلل من قيود التوجيه السياسي والرقابة الحكومية وتحكم الإداريين والموظفين، كما في الفعاليات الرسمية التي تنظمها وزارة الثقافة وهيئات الدولة. بلغت هذه المراكز درجة كبيرة من الاندماج والذوبان في نسيج المجتمع. ومع كثافة الفعاليات التي تقدمها باتت بيوتا مفتوحة طوال النهار والليل لزوّارها وروّادها من سائر الفئات والأعمار، خصوصا من الشباب. هل تغري اتجاهات السوق واعتبارات التكسّب المادي، والرغبة في اجتذاب أكبر عدد من الحضور بدعوى التبسّط، هذه المراكز الثقافية الأجنبية بالحياد النسبي عن أدائها الرصين، لتقدّم بدورها ما يمكن وصفه أحيانا بالمنتج السوقي أو الهابط؟ هذا السؤال يطرح ذاته بقوة في المشهد المصري، في ضوء قراءة مستجدات الأشهر القليلة الماضية، التي لمع فيها المطرب الشعبي “حمو بيكا” كأحد نجوم الحفلات الشبابية التي استضافها “الجريك كامبس” في قلب القاهرة، وسط دهشة بالغة وانتقادات متصاعدة لاحتضان مركز ثقافي مرموق فعاليات من هذا القبيل. مسارات متباينة من خلال رصيد ثري عبر سنوات طويلة، اقترنت المراكز الأجنبية بذلك الهامش المضيء في الفكر والعلم والتنوير، عبر أنشطة متعددة، تثقيفية وتعليمية وفنية، تتّسم بالعمق والجرأة وكسر إطار التحفظ والتعقل، وتلبية متطلبات المجتمع، وقراءة خارطة مشكلاته وقضاياه الحقيقية، وعلى رأسها الحرية، والمساواة، وحقوق المرأة، على سبيل المثال. هكذا، صارت مراكز ثقافية من قبيل “الفرنسي” و”الروسي” و”جوته” الألماني و”الجريك كامبس” اليوناني و”ثربانتس” الإسباني و”مولانا آزاد” الهندي والجامعة الأميركية، وغيرها، مساحات مألوفة وأمكنة مفتوحة ومنابر جادة يتابع الآلاف برامجها ونشاطاتها المتنوعة. تتّسم مشاركة الجمهور في هذه البرامج بالتفاعلية والحميمية، دون أدنى شعور بالاختلاف أو الاغتراب، بل ربما يجد المشاركون أنفسهم في هذه المنصات أكثر مما يجدونها لدى مؤسسات الدولة النخبوية التي لا تجيد الإعلان عن فعالياتها في الميديا التقليدية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية. بقراءة أوراق المراكز الثقافية الأجنبية البارزة في مصر يمكن رصد أكثر من مسار في توجهاتها وانطلاقاتها، وبصفة عامة يمكن تلخيصها في: مسار الارتقاء بالوعي عبر الفعاليات العلمية والفكرية والثقافية والفنية والترفيهية والمجتمعية، والمسار التعليمي واللغوي، والمسار التسويقي والتجاري المباشر وغير المباشر. لا يزال المسار الأول يشكل الاتجاه الغالب في برامج المراكز الأجنبية الحافلة باللقاءات والحوارات والعروض السينمائية والمسرحية والحركية والأدائية والمؤتمرات العلمية والفكرية والندوات والمحاضرات والمهرجانات والمعارض وغيرها، فضلا عن البرامج المجتمعية الخاصة، وأجندات الحقوقيين والناشطين والإصلاحيين. من هذه النماذج، فعالية “تشويش” التي نظمها المركز الثقافي الألماني “معهد جوته” في نوفمبر الماضي، وهي مجموعة لقاءات وعروض فنية وأدائية ومسرحية وشعرية وأفلام سينمائية ومحاضرات وحفلات موسيقية ومعارض تشكيلية وأعمال مركبة تخص “القضايا النسوية” في مصر والمنطقة العربية وأوروبا، بهدف هزّ الصور النمطية عن النساء، والمسائل الجندرية (النوع الاجتماعي) من خلال طرح أكاديمي وفني ومحادثات مشتركة. من نشاطات “جوته” في المسار الجاد أيضا خلال ديسمبر الجاري، الإسهام في مهرجان أسبوع الكوميكس بمصر، ومحاضرات لمجموعة “سبرنجر نيتشر للأبحاث العلمية”، وعروض سينمائية في إطار “مهرجان أفلام الهجرة الدولي”، وعروض فن الحكي والموسيقى الغنائية، ومشروع “بستان جوته – أسطح خضراء”، ومشروع “العلم حكاية”، وغيرها. تسهم المراكز الثقافية الأجنبية في دعم هذا المسار الجاد بممارسات متنوعة، منها تخصيص المركز الثقافي اليوناني “الجريك كامبس” أول حديقة للتكنولوجيا والابتكار في القاهرة، لدعم الشركات المبتدئة في قطاع التكنولوجيا وتشجيعها على النمو والازدهار في جو مناسب، وتنظيمه واستضافته نشاطات ثرية، من قبيل مهرجان القاهرة لموسيقى الجاز، وورشة التصوير المفاهيمي، وفعاليات اجتماعية مثل “هي تستطيع” و”يوم الستات” و”مهرجان السعادة”، وغيرها. في الإطار ذاته، يشهد المركز الثقافي الفرنسي على مدار ديسمبر الجاري حفلات بابا نويل للأطفال، وسلسلة للأفلام الكوميدية، وملتقى الدردشة والحوار لاكتشاف العالم الناطق بالفرنسية، والأفلام الوثائقية حول قضايا المهاجرين واللاجئين، وحفل تكريم يوسف شاهين، ومؤتمر “صناعة المدينة المُستدامة”، ومؤتمر “تقنية النانو: النظرية والتطبيقات”، واحتفال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغيرها. وتقدم بقية المراكز الأجنبية تظاهرات وفعاليات مشابهة، منها: ورش التصوير الفوتوغرافي (المركز الثقافي الروسي)، مسابقات الرسم للموهوبين (مركز مولانا آزاد الثقافي الهندي)، معارض “الغرافيك” والورش العلمية والعروض الأوبرالية والسينمائية (المركز الثقافي الإسباني “ثربانتس”)، جائزة نجيب محفوظ للأدب (الجامعة الأميركية)، وتزمع الجامعة الأميركية افتتاح “مركز التحرير الثقافي” في فبراير المقبل كملتقى ثقافي وفني دولي للكبار والصغار على السواء. التعليم والتسويق إلى المسار التعليمي واللغوي للمراكز الثقافية الأجنبية، وهو نشاط أصيل لهذه المراكز خصوصا ما يتعلق بلغة الدولة التي ينتمي إليها المركز الثقافي، وهو في الوقت ذاته نشاط يهدف إلى التربّح، فهذه الدورات و”الكورسات” ليست مجانية كأغلبية النشاطات الثقافية والفنية. وتتبارى المراكز الثقافية الأجنبية في الإعلان عن مناهجها التعليمية واللغوية، وأبرزها مستويات اللغة الإنكليزية في الجامعة الأميركية، والدورات العامة والمتخصصة ودبلوم الإسبانية في ثربانتس، ومناهج اللغات والترجمة والكمبيوتر وإدارة الموارد البشرية في المركز الثقافي الروسي، ودورات اللغة للكبار وللصغار في المركز الثقافي الفرنسي، وتدريس اللغة الألمانية في “جوته”، وغيرها. من التربّح المقترن بمناهج تعليمية ولغوية قيّمة، إلى مسار آخر للتسويق بدأ يظهر خلال الأسابيع القليلة الماضية، من خلال تنظيم فعاليات فنية شعبية تحظى بإقبال شبابي واسع النطاق تحت شعار “الحضور وقوفا”، وقد لا يكون المركز الثقافي هو الجهة المنظمة للحدث، لكنه يسهم في الانتفاع منها تجاريّا بشكل غير مباشر عن طريق استضافته للحفل والدعاية والترويج له. من هذه الفعاليات، أيام الرقص الرياضي للجنسين، وحفلات المطربين الشعبيين من أمثال أوكا وأورتيجا وأحمد شيبة وغيرهم، وأخيرا “حمو بيكا” الذي استضافه “الجريك كامبس” منذ فترة وجيزة في حفل صاخب سيء التنظيم والإعداد، امتد على مدار النهار بأكمله بحضور الشباب وطلاب المدارس من أعمار مختلفة. ويشكل حفل “حمو بيكا” في “الجريك كامبس” علامة استفهام، ويبدو إشارة إلى اتجاه المراكز الثقافية الأجنبية في بعض نشاطاتها الحديثة إلى مسايرة اعتبارات السوق بشكل كامل، والرضوخ لرغبة قطاعات من الجمهور تنشد لونا معيّنا من الفنون يوصف عادة بالابتذال. في المحصّلة، تبقى المراكز الثقافية الأجنبية بمصر مصادر متوهّجة تبث إشعاعاتها التنويرية والتثقيفية والتعليمية، على الرغم من تبنيها بعض الفعاليات السوقية التي لا ترقى إلى المستوى المأمول.