تسيطر روح المغامرة على أعمال 170 فنانا احتضنها مؤخرا صالون الشباب بالقاهرة، الأمر الذي يبشّر بقيم جمالية مبتكرة وتيارات جديدة تسودها الجرأة والحرية في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة. يبدو التطوير والتجريب والإبحار في الخيال بحاجة دائمًا إلى مسرح واقعي، كي يحتوي أحلام الفنانين المغامرين ويحوّلها إلى حقائق وآفاق جديدة تصل بالأفكار المجردة والتهويمات المسبقة إلى نتائج ملموسة، وهذا ما يفعله “صالون الشباب” في دوراته السنوية بمصر، فهو المحفل الجماعي الأبرز الذي يرسم حاضر الحركة التشكيلية ومستقبلها في مصر. تأتي الدورة 29 لصالون الشباب (2018) في قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية بمثابة متنفس لإبداعات أحدث الأجيال في مجالات الفنون التشكيلية المختلفة، حيث يراهن “قطاع الفنون التشكيلية” المنظّم للحدث على تفجير الطاقات الخلاّقة، ودعم محاولات الشباب للإفلات من القيود والتمرد على الثوابت وخلخلة الموروث بدون إهداره. استضاف الصالون الذي أقيم على مدار ثلاثة أسابيع حتى أواسط الشهر الجاري، قرابة مئتي عمل لمئة وسبعين فنانا في مجالات مختلفة، منها: الرسم، التصوير، النحت، الخزف، الغرافيك، التجهيز في الفراغ، الميديا، الفيديو آرت، الفنون التفاعلية والرقمية. تعد السمة الأساسية في أعمال الصالون هي هيمنة القيم الجمالية والمدارات التخييلية على الأفكار والتصورات الذهنية، إذ ينطلق الفنانون من منصّات كيفية في المقام الأول، بمعنى أن آليات التعبير المحشودة هي الشغل الشاغل قبل المحتوى المضموني الذي يجري التعبير عنه. في هذا المضمار، تتفاعل أبجديات التكنيك لدى الفنانين مع مثيلاتها في دول العالم لدى تيارات الفن المعاصرة، وتتبنى تجارب الشباب المشاركين في الصالون رؤى متطورة متجاوزة، تبتغي الجرأة ثيمة، وتنشد الحرية عنوانا. خارج الصندوق تنطلق الأعمال الفائزة بجوائز الصالون في مجالات الفنون المختلفة، على وجه الخصوص، خارج الصندوق، فالدهشة هي الترجمة الأوضح للرغبة الملحّة في فرض الذات، والإيحاء بخبرات وتراكمات فنية وحياتية بالرغم من صغر أعمار المشاركين. من تلك التجليات، أعمال محمود رشدي وأحمد الحسيني، الفائزين بجائزتين في الخزف؛ المجال الفني الذي تخصصا فيه كدارسين وممارسين، حيث يتجاوز رشدي مفهوم القطعة الواحدة مقدمًا تركيبات وتشكيلات خزفية على الحائط، مع اختيار مفرداتها ذات الأبعاد الهندسية بعناية، في محاولة لبناء عالم ممتد لكنْ من وجهة نظر نسبية، فامتلاك الصورة الكاملة وهم، والصدق هو مواجهة الإنسان نفسه، والتعبير عما يراه من زاوية محدّدة، هذه الزاوية هي وجه من وجوه قصة تحتمل أكثر من رواية. أما أحمد الحسيني، فيستعرض إمكاناته في تطويع الخزف كخامة في التكوينات الضخمة والأبنية الشامخة، وتقترح أشجان مكارم إمكانية التعاطي مع الخزف كوحدات زخرفية متجاورة متلاصقة لتشكل جدارية في مشهد كلي. تستند أعمال المشاركين إلى خلفيات ومعارف متعددة، تكسبها عمقًا إنسانيًّا وربما بعدا فلسفيّا، وإن كانت طرائق التعبير المستجدة هي الهدف الغائي دائما لفنانين يبحثون عن خصوصية ومكان في المشهد التشكيلي المعاصر. في العمل الفائز بجائزة الفنون الرقمية في مجال الغرافيك، على سبيل المثال، ثمة إشارة من بسمة بركات إلى التأثر ببيئة رواية “أنت.. فليبدأ العبث” لمحمد صادق، وتلجأ الفنانة إلى تقنية الأبيض والأسود لرصد طقوس سحرية تشكل الإيقاع الخارجي لحركة الحوت، فضلا عن توقعاتها لما يعتمل بداخله من حياة وتموجات ونبضات. تتمثل أصغر مشارَكة في الصالون في عمل ينتمي للفنون الرقمية، وهو لباربارا ريمون، 17 سنة، في مجال التصوير الضوئي، ويعتمد على المزاوجة بين الإضاءة والظلال، لخلق دوامات وخطوط وحركات راقصة تحيل إلى أجواء الباليه، وتمد آفاقًا ومدارات لاستخراج القوى الشعورية الدافقة. خيالات جامحة يشكل جموح الخيال ملمحا سائدا في عدد غير هين من أعمال الصالون المقترن عادة بالإشارات الاستباقية الاستشرافية في خارطة الفنون بمصر، وقد يأتي هذا التوجه في إطار من النضج والوعي، كما قد يبلغ حد الإفراط أحيانا بدافع الحماس الزائد لدى البعض، وتعجل تقديم الذات كعلامة مميزة وشخصية منفردة. في مجالي التصوير والرسم، تنفتح أعمال إسلام الريحاني ومروة أبوالنصر وأمير أنور ودينا مدكور ونورا إبراهيم وماجي عاطف، على نوافذ الموروث المصري بروافده المختلفة، خصوصًا “وجوه الفيوم” والفن الفرعوني القديم، فضلا عن كلاسيكيات التشكيليين المصريين الرواد في عصر النهضة، حيث تحيل ملامح الشخوص والدفء العائلي والنشاطات المجتمعية إلى هوية راسخة وبيئة محلية. هذا التواصل مع المعطيات المخزونة في الذاكرة، الذائبة في نسيج الروح، لا يشكل مجالا للتأثر لدى الفنانين، بقدر ما يبدو حافزا لهم للخروج عنه وكسر قوالبه وفضّ قوانينه، ليقدم كل فنان عمله الموازي المنفلت، الذي يتسع أيضا لحركة الحياة الراهنة بعناصرها وتفاصيلها وموضوعاتها المستجدة. قد تتشابك اللحية الكثيفة لأحد الأشخاص مع همّه الداخلي، كما تشتبك مع الدخان المتصاعد وملوثات البيئة الخارجية من حوله، وقد تتراقص نساء مصريات بملامح فرعونية وهن يرتدين ملابس غربية عصرية، ولربما ينقلب فم المرأة الباكية إلى “إيموشن” الحزن المعروف في الثقافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. في النحت أيضًا، يقدم المشاركون رؤاهم المتمردة التي تعكس جموحهم وفورانهم، ومنهم ريم أسامة ومنى هيكل ويحيى عبدالفتاح، وفي هذا الميدان هناك مجال أوسع لتلاقح الثقافات والحضارات، فهناك وعي بالموروث الإغريقي إلى جانب الفرعوني، مع مسايرة الفنانين للاتجاهات الحديثة في الفن، من خلال التجريد واختزال التفاصيل والملامح الزائدة والحرص على الإيهام بالحركة والطبيعة التفاعلية. تتجلى الصيغ التجريبية بوضوح أكثر في مجالات التجهيز في الفراغ كما لدى محمد عيد، والفنون الرقمية مثل أعمال إنجي طلعت وهند وهدان في التصوير الضوئي، حيث يقدم الفنانون؛ في أعمال مركبة متنوعة الخامات ذات العمق الفلسفي؛ قراءة بصرية لأحوال الإنسان العصري المختلّ التوازن، والممزق الأوصال، والمنخلع من أرضه وجذوره، والمتجه إلى مصير النفايات والأشياء البالية.