أخيرا فيلم عبقري السينما الأميركي أوروسون ويلز غير المكتمل يرى النور بعد أن ظل طويلا عملا مجهولا. أخيرا وبعد طول انتظار عرض الفيلم المجهول “الجانب الآخر من الريح” الذي قضى عبقري السينما الأميركي أوروسون ويلز سنوات في تصويره في السبعينات، إلا أنه لم يتمكن أبدا من استكماله، وقد ترك وراءه عند وفاته عام 1985 أكثر من مئة ساعة من المادة المصورة. وتمكن فريق من الباحثين والسينمائيين يتصدرهم بالطبع المخرج والمنتج بيتر بوغدانوفيتش الذي يظهر في الفيلم أيضا كممثل، والمونتير روبرت موراوسكي الذي قام بتوليف المادة السينمائية بعد مطابقة الكثير من اللقطات مع ما تبقى من السيناريو ومع بعض ملاحظات ويلز المكتوبة، والاستعانة بالأجزاء التي قام ويلز بتوليفها بنفسه، من استكماله. النتيجة أننا أمام عمل شديد الحيوية وفي الوقت نفسه شديد التعقيد والغموض أيضا، مع درجة من التشوش ربما كانت تعكس الحالة النفسية والمزاجية التي كان عليها ويلز وهو يصور ما كان يعتبره فيلمه الشخصي أو فيلما من أفلام مكاشفة الذات، من البوح ولو عن طريق الاستعانة بممثل يلعب دوره تحت اسم آخر. وربما يجد البعض هنا أيضا تشابها على نحو ما، مع فيلم ويلز الشهير “المواطن كين” في غموضه المقصود الذي يدور حول مغزى كلمة “روز بد” التي قالها المليونير تشارلز فوستر كين قبيل وفاته مباشرة وأصبح البحث عنها هو البحث الشاق عن الرجل نفسه: حياته وفلسفته وأفكاره. كانت قد جرت من قبل محاولات عديدة لاستعادة فيلم “الجانب الآخر من الريح” ووضعه في شكل سينمائي جدير باسم المخرج الكبير الراحل الكبير، لكن هذه المحاولات تعرضت للكثير من المعوقات الإنتاجية بسبب انسحاب الممولين، إلا أن معظمها جاء أساسا من جانب الممثلة أوجا كادار رفيقة ويلز في العشرين سنة الأخيرة من حياته، وهي الممثلة الكرواتية المجرية التي التقاها ويلز في فيينا عام 1961 عندما كان يصور فيلم “الرجل الثالث”، وكانت تصغره ب 26 عاما وارتبط بها رغم استمراره في زواجه، وشاركته هي كتابة هذا الفيلم وأفلام أخرى كثيرة لم تر النور قط. وكانت كادار تتفق مع أطراف إنتاجية كانت قد أبدت حماسها لاستكمال الفيلم، لكنها كانت دائما تتراجع في اللحظة الأخيرة، وكانت هي التي تمتلك بالطبع النيغاتيف الخاص بالمواد التي صورها ويلز وكانت تحتفظ بها في باريس، وأخيرا تمكنت شركة نتفليكس من شراء الحقوق واستعانت بعدد من الخبرات السينمائية التي نجحت في توليف الفيلم ومزج الصوت في نسخة رقمية حديثة مع الاستعانة بالموسيقى التي وضعها الموسيقار الفرنسي المرموق ميشيل لوغران. يبدو الفيلم للوهلة الأولى كما لو كان يروي قصة فيلم ويلز نفسه، فهو يدور حول مخرج سينمائي شهير يدعى “جاك هانافورد” يقوم بدوره جون هيستون، وهو المعادل السينمائي هنا لشخصية أوروسون ويلز نفسه، هذا المخرج عجز عن استكمال فيلمه الذي يحمل اسم “الجانب الآخر من الريح” بعد أن هجر بطل الفيلم الشاب التصوير ولم يستكمل تصوير المشهد الذي كان يفترض أن يمارس فيه الجنس مع بطلة الفيلم الممثلة الفاتنة التي تقوم بدورها- ليس أقل بالطبع من أوجا كادار نفسها. وقد قرر المخرج إقامة حفل كبير دعا إليه عددا كبيرا من أهل صناعة السينما في هوليوود من منتجين وموزعين ومخرجين وممثلين معظمهم من الجيل الجديد ومعهم مخرج سينمائي شاب صديق المخرج الذي يؤمن بعبقريته وقد أصبح مساعده الأول، ويقوم بدوره بيتر بوغدانوفيتش الذي يؤدي دوره في الواقع. يريد المخرج هانافورد عرض ما صوره من الفيلم على الحاضرين عله يجد من يتحمس لاستكمال الفيلم الذي تعثر أيضا لأسباب إنتاجية. ويبدأ العرض بالفعل ولكنه يتوقف أكثر من مرة بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن المكان كما لو كان هناك من يتعمد أن يقطعه. ويقوم عدد من المخرجين الحاضرين بتصوير كل ما يحدث في الحفل وخاصة كل ما يدلي به المخرج الكبير من آراء، ويتوقف المخرج كثيرا أمام مشهد الممثلة وهي تسير عارية في فضاء خاص تبحث عن البطل الشاب الذي يبدو أيضا عاريا من بعيد تفصل بينهما الريح التي تحرك الكثير من الأشياء في الطريق، لكن الممثل يبتعد ويختفي ويصيح المخرج مرة بعد أخرى: “أين الممثل.. لقد اختفى. إنه غير موجود.. ابحثوا عنه”. هنا لا نعرف هل نشاهد في الحقيقة النسخ السريعة التي صورها هانافورد، أما نشاهده وهو يشرف على عمل المونتاج لبعض مشاهد فيلمه، أم أننا نسمعه الآن خلال الحفل وكأنه قد اكتشف لتوه اختفاء الممثل. ما يحدث في الحفل أن الجميع يبدون ملاحظاتهم حوله بالسلب والإيجاب وكثيرون يوجهون له الأسئلة التي يتهرب من الإجابة على معظمها أو يقابلها بسخريته المعهودة، ولكن هناك أيضا الناقدة السينمائية “جولييت ريتشي” (تقوم بالدور ببراعة الممثلة سوزان ستراسبيرج) التي تهاجمه بشدة وتسخر من تضخم الذات عنده ومن ميله للتجريب وتقليد السينما الأوروبية والتعالي على الجمهور، وقد تردد أن ويلز كان يقصد الإشارة من خلال هذه الشخصية إلى موقف الناقدة الشهيرة بولين كيل التي دأبت على الهجوم على أفلامه. من الواضح أن ويلز أراد صنع فيلم تجريبي على غرار أفلام الموجة الجديدة التي لا تتقيد بسيناريو واضح، ولا تعتمد كثيرا على الممثلين، يريد أن يقدم الشخصية- أي شخصيته هو- من خلال تناقضاتها وأزمتها وسخريتها المريرة من الذات ومن العالم، وفي الفيلم الكثير من الإشارات إلى هيمنغواي صديق ويلز الذي يبدو جون هيستون في الدور مشابها له بلحيته والسيجار الذي لا يفارقه، كما يتردد الكثير من التعليقات حول أنطونيوني وبرتولوتشي وفيلليني وكلود شابرول الذي يظهر في الفيلم أيضا مع مخرجين آخرين مرموقين يلعبون أدوارهم الحقيقية مثل دينيس هوبر وهنري جاغلوم وفرانك مارشال، والممثلة الفرنسية ستيفان أودران. لا يروي الفيلم قصة ولا يطور لحظة بحث المخرج عن أسباب أزمته بل يمدها ويستطرد في السرد ويكثر من الانتقال بين الشخصيات في مونتاج عصبي سريع ومن خلال فلاشات أو لقطات قصيرة سريعة مع غلبة الحوار الصاخب السريع والانتقال من دون أي منطق واضح من الألوان إلى الأبيض والأسود على غرار ما يفعل غودار حاليا، فويلز شرع في هذا المشروع وفي نيته أن يصنع عملا “تجريبيا” شخصيا يتحرر تماما من تقاليد السرد في السينما التقليدية، بل ويهيل التراب أيضا على سينما هوليوود التقليدية والهجوم الشديد عليها من خلال الاعتداء على الشكل وأيضا التعليقات الهجائية الساخرة التي يرددها الحاضرون. إن هذه الحالة “العدمية” إذا جاز التعبير، تجعل متابعة الفيلم عملية شديدة الإرهاق، ولذلك كان استقباله مشوبا بنوع من الوجوم عند انتهاء عرضه الصحافي في مهرجان فينيسيا. لكن عشاق سينما أوروسون ويلز سيغفرون كل ما يشوب الفيلم من جوانب نقص، فويلز لم يستكمله على أي حال، ويحتفلون بالعثور أخيرا على الجانب الخفي من ذلك الفيلم الذي ظل طويلا عملا مجهولا.