تُعرف الحضارات بفنونها مثلما يُعرف البشر ببصماتهم، وفي عالمنا المعاصر تلعب القوة الناعمة الدور الأبرز في التعريف بالرأسمال الإنساني للشعوب، ورسم كيانات الدول ومد نطاق تأثيرها خارج الحدود، ويبدو أن العملاق الصيني الذي قطع أشواطا كبيرة في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، مصمم على أن يستكمل هذا التقدم بآخر مواز في الثقافة، واستثمار القوة الناعمة لها في دعم تمدده بالعالم. في هذا الإطار، انطلق في القاهرة المعرض الجماعي “فن بلا حدود” (-15 20 أغسطس)، لنخبة من التشكيليين الصينيين، من ناسجي الفنون التقليدية والحديثة، لتصافح الحضارةُ الصينية نظيرتها المصرية على ضفاف النيل. المرأة تجسّد حلم "كاو كوينج" بواقع أفضل للبشر يجد الخيال الصيني ذاته بسهولة على أرض مصرية، فالحضارتان الصينية والمصرية تلتقيان منذ آلاف السنين في التعبير عن الحياة من خلال الفن، وقراءة مشاهد الطبيعة وعناصرها وتراكيبها، واستبصار جوانيات الإنسان وعوالمه الداخلية وطاقته الروحية الخلاقة. على خلفية هذه الأواصر المشتركة منذ القدم في الفنون، خصوصا في مجال التشكيلات البصرية، وحرصا على تغذية التفاعل بين الثقافتين الصينية والمصرية في الحاضر والمستقبل، جاء المعرض الجماعي “فن بلا حدود” الذي نظمه المركز الثقافي الصينيبالقاهرة وأكاديمية شنغهاي للفنون الجميلة في “مركز الجزيرة للفنون” بالقاهرة، برعاية قطاع الفنون التشكيلية. الموروث والطليعي على صفحة النيل في حي الزمالك الهادئ، انعكست إبداعات فناني أكاديمية شنغهاي، لتشكل في مجملها خارطة الفنون الصينية، بجذورها التقليدية الموروثة، وتجلياتها المعاصرة والطليعية، وتنوعت أعمال الفنانين المشاركين بين الرسم والتصوير الزيتي والطباعة والنحت. أبرز سمات أعمال المعرض الصيني، انفتاحها المتزن على الوافد الغربي، من دون إهدار لمفردات الهوية والخصوصية الضاربة في التاريخ، فالرياح القادمة من أي اتجاه ستبقى مثمرة بشرط ألا تقتلع الفنان من أرضه، وفق مقولة غاندي. هكذا، ينهل الفنانون من منابع الفن الصيني التقليدي، بما تعنيه فلسفته من استلهام للطبيعة دون محاكاتها، والتوحد النفسي والطقسي مع كائناتها ومفرداتها من طيور وورود ووديان وجبال وبحار، فضلا عن الإفادة من التقنيات الموروثة، باستخدام الأحبار الصينية والحرير والورق، والتقشف في استخدام الألوان، والاهتمام بالخطوط الدقيقة والتفاصيل، وما خلف الشكل من روح محرّكة ثائرة. خلف "قناع الدراما" تختفي الحكايات هذه الثيمات الأصيلة تلتقي بأريحية مع ثمرات الفن المعاصر والطليعي في الصين وخارجها، بما تعنيه أيضا من فلسفة وتقنيات وأدوات، فالعالم الصناعي يطلق أدخنته وماكيناته في وجه الطبيعة، لتتشكل بفعل المواجهة طبيعة أخرى مغايرة، والنمو الاقتصادي يرسم بالألوان الصاخبة وجها آخر للعملاق الصيني، وأحاديث المجتمع المالي والرأسمالي صارت تصل إلى ذاكرة المدن وتختلط بحكايات الفنانين المألوفة عن الصين الكائنة خلف السور العظيم. بألوان الزيت على الكانفاه، تأتي لوحة “ذاكرة المدينة” ل”جين كوينج”، التي تبحر في العمق الإنساني المشكل للحضارة عبر العصور، فحركة الحياة إلى الأمام هي خلق واحتراق، والوقود الذي يذكي بوتقة الرقي والتطور هو عصارة الإبداع والتخييل، فلا عجلة تدور من دون طاقة الإنسان. وبعنوان “في مواجهة الفهد”، يأتي التشكيل النحتي بالورق ل “جيانج جينجون”، حيث ذلك الصراع الأزلي بين البشر في وضعيتهم الطينية البدائية، وبين وحوش الكون، سواء الكائنات المفترسة، أو الإنسان بعد تنمره، أو آليات العصر المادي القاهرة لإرادة الإنسان وحريته وانطلاقه. فضاء الأخيلة بالنقوش التقليدية، والتفاصيل والخطوط الدقيقة، جاء رسم “الأرنب”، بالحبر على الورق، ل”جو تينج”، وتتحقق الحركة من خلال تداخلات الأبيض والأسود، وتموجات الظلال والأضواء، لتقود السفينة البصرية إلى فضاء من الأخيلة، وحياة تحكمها الرموز القديمة والأساطير. وتنفتح لوحة “كاو وي” على مشاهد طبيعية في أوروبا، حيث تساعد ألوان الزيت على الكانفاه في إبراز هيكل الحضارة المدنية الحديثة الصاعد إلى عنان السماء بسيولة وانسيابية، وتأتي السحابات المندمجة في التكوين لتبدو وكأنها تبارك هذا الصعود، الذي لم يكن لولا استنارة الإنسان وبياضه الداخلي. وضمن “قناع الدراما” في تكوين “زهانج هايبنج” النحتي، تختفي الحكايات القديمة وتظهر في آن، وتطل الوجوه من خلال العيون وقليل من الملامح الحقيقية، فيما تنوب الدهانات عن البشر في قول ما يجب أن يقال، وتجميل وتزيين ومحو ما قد يكون مسيئا أو كاشفا أو فاضحا. ألوان الزيت على الكانفاه تبرز هيكل الحضارة المدنية الحديثة في لوحة "كاو وي" في رسم بعنوان “باقٍ على قيد الحياة”، تنفتح تجربة “لي تشاو” بالحبر الصيني على الورق على المعنى الحقيقي للوجود، من خلال التجدد والإثمار، ولو بأقل قليلا من المعطيات والهبات الكونية، ويجسّد الأبيض والأسود معادلة الزهد ببساطة وشفافية. أما “التل الأخضر”، فهو وليد بصيرة “تانج تياني” في لوحته بالزيت على الكانفاه، وهنا يتحرر المشهد الطبيعي من حدوده كمنظر، لينقل فلسفة الاخضرار كقيمة لا تخص النباتات فقط، إنما تتجلى عبر دورة الحياة بالكامل التي تخص سائر الموجودات والإنسان. وإلى “دروب الحلم” في لوحة “كاو كوينج” بألوان الزيت على الكانفاه، حيث تحمل المرأة تطلعات البشر إلى واقع أفضل يسوده السلام وتغمره المحبة ويبحر في النور. وتتسع المرأة لمفردات الخصوبة جميعا من أرض طيبة وأشجار وبحور. وتتجسد الموجة الحرارية في رسوم “زهو جوبن” بالحبر على الورق، حيث يبدو الإنسان الجديد محاصرا بإشعاعات تخنقه وخيوط تقيّد حركته الحرة، وفي عصر الاحتباس الحراري يصير لزاما احتباس الكثير من عناصر الحياة. معرض “فن بلا حدود”، يحمل الكثير من عنوانه، فالتجارب الفنية منطلقة في شتى الاتجاهات، منفتحة على الموروث الحضاري وسائر التيارات الوافدة، بما يسهم في رسم الوجه الصيني بأمانة بألوان قوس قزح الدالة.