المسرحية تثير النقاش حول علاقة المسلمين واليهود في لبنانوتونس قد يُفسّر في أحد جوانبه بدعوة إلى التطبيع مع الإسرائيليين. دعوة ناعمة إلى محو العداوات القديمة وتجاهل الاختلافات الدينية باسم الحب الجديد الذي يفسح المجال للتعايش السلمي ويساوي بين الضحايا والمستعمرين. أثار العرض المسرحي “في قلبي أنثى عبرية” الذي شهدته القاهرة مساء الجمعة، الجدل بما صوّره من حالات الحب التي تتحدى اختلاف الأديان، وعلاقات الانصهار الاجتماعي بين المسلمين واليهود في جنوبلبنان، وفي تونس، الأمر الذي قد يُفسّر في أحد جوانبه بدعوة إلى التطبيع مع الإسرائيليين. وصُوحب العرض بضجة كبيرة، ليس بسبب جمالياته وتقنياته الأدائية وأدواته الفنية التي جاءت مخيّبة للآمال، وإنما بسبب توجهاته التي أثارت الرأي العام ضد وزارة الثقافة المصرية التي سمحت بتقديم أطروحات على هذا النحو على أحد مسارحها، خصوصا أن المسرحية ليست مجهولة كنص كتبته ونشرته الروائية التونسية خولة حمدي في وقت سابق، وجرى تقديمه من قبل على المسرح. وبدت المسرحية محاولة للسباحة ضد تيار القناعة الجمعية لدى المجتمع المصري، مصيرها الحتمي الغرق الهادئ، بعد جدل صارخ انطفأ سريعا. ربما ينسى مشاهدو “في قلبي أنثى عبرية”، التي قدمتها فرقة “فن محوج” على مسرح “رومانس” بالقاهرة (17 أغسطس) الكثير من تفاصيلها، لفقرها الفني، لكنهم يظلون بالتأكيد متجادلين لوقت طويل مع الأفكار والمقترحات التي تطرحها، خصوصا اللقطة الختامية، التي تُتَوَّج فيها العلاقة بين فتاة يهودية وشاب مسلم من المقاومة اللبنانية بالزواج، بعد فترة من العشق الجارف. "صُوحب العرض بضجة كبيرة، ليس بسبب جمالياته وتقنياته الأدائية وأدواته الفنية التي جاءت مخيّبة للآمال، وإنما بسبب توجهاته" أمر طيّب بطبيعة الحال أن يجسّد الفن العلاقات بين الأديان السماوية؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، كعلاقات تسامح واحترام متبادل، فتلك هي الصورة الصحيحة للأديان، التي تسهم في تغذية السلام ومناهضة العنف والطائفية. لكن الإلحاح على تصوير حالات العشق والزواج بين المسلمين واليهود في مناطق الصراع العربي الإسرائيلي يبدو رسالة خفية برائحة التطبيع، ودعوة ناعمة إلى محو العداوات القديمة وتجاهل الاختلافات الدينية باسم هذا الحب الجديد، الذي يفسح المجال للتعايش السلمي، ويساوي بين الضحايا والمستعمرين. المعالجة المصرية لرواية التونسية خولة حمدي، صاغها محمد زكي، وأخرجها محمود عبدالعزيز، وقدمها ممثلو فرقة “فن محوج” من الشباب، ولم تنجح من خلال مشهد واحد مطوّل في الإقناع الدرامي وتجسيد تنامي الأحداث ومواكبة نقلاتها بين تونسولبنان. المسرح نفسه جاء صورة ملائمة للارتباك الفني السائد، فسمّاعات الصوت لم تكن مجهزة، وتعطلت أكثر من مرة في أثناء العرض. واللغة المسرحية جاءت ركيكة، مليئة بالأخطاء في حالة التحدث بالعربية الفصحى، ومفتعلة وملفقة عند استخدام الممثلين المصريين اللهجة التونسية أحيانا، واللهجة اللبنانية في أحيان أخرى. بعيدا عن عناصر المسرحة، التي لم يسلم فيها من الخلل غير بعض الإرهاصات الفردية في أداء قلة من الممثلين في بعض المشاهد، والموسيقى التي جاءت حيّة معبرة عن الأحداث والأجواء المحلية، فإن العرض كله جاء بمثابة منصة لإطلاق الأفكار والمقترحات الجاهزة، المتناثرة، المفككة، التي لم تحسن كذلك اختيار البيئة الصالحة للإقناع، فالجمهور المصري له قناعات أخرى يصعب تغييرها. تدور أحداث المسرحية بين تونسوجنوبلبنان، وفي كل بلد يتحدث الممثلون بلهجته المحلية، فيما يقوم شاب “باسكال” وفتاة “سارة” برواية بعض الأحداث بالأسلوب السردي، بالعامية المصرية، مع محاولة لإضفاء روح المرح والفكاهة من خلال مزاحهما مع بعضهما البعض وهما يستعرضان الأحداث في تونسولبنان. البداية كانت بلقطات سينمائية من أفلام تسجيلية تثبت الاعتداءات الإسرائيلية على العرب والأراضي العربية منذ عام 1948، مرورا بصبرا وشاتيلا، وصولا إلى مجازر قانا والجنوباللبناني، ويوحي العرض بأنه نصرة أمام العالم للعرب والمسلمين في صراعهم مع الإسرائيليين المعتدين. ثم لا يلبث العرض أن يستعرض أفكاره الخاصة مباشرة، وهي أن المقاومة لا تتعارض مع المحبة، بل إنها قد تختلط بها، وهنا لا تستطيع الأديان ولا الصراعات أن تقف في وجه العشق، الذي يوحّد القلوب، ويجمع بين البشر في منظومة جديدة تشكل الواقع الجديد، الذي يصنعه الشباب. "صورة ملائمة للارتباك الفني السائد، فسمّاعات الصوت لم تكن مجهزة، وتعطلت أكثر من مرة في أثناء العرض. واللغة المسرحية جاءت ركيكة، مليئة بالأخطاء" في جنوبلبنان، تلتقي الفتاة اليهودية ندى التي تربّت مع أمها اليهودية بعيدا عن أبيها المسلم، مع الشاب المسلم أحمد، عنصر المقاومة اللبنانية في الجنوب، وتنشأ بينهما علاقة حب ملتهبة، على الرغم من اعتراض الأهل. بعد موجات من الشد والجذب، وقيام الشاب بعملية خطيرة مع المقاومة، وغيابه لفترة طويلة، وعودته وهو فاقد للذاكرة، ثم استرداده لها، تنتهي العلاقة بينهما بالزواج ومباركة الجميع لهذه الخطوة التي تقرّب بينهما أكثر فأكثر، ويتنصر الحب على صراع الأديان، بعدما بدأت اليهودية ندى تقرأ القرآن وتشدها تعاليمه السمحاء. على الجانب الآخر، في تونس، حيث تقيم جالية يهودية منذ زمن بعيد، يتولى رجل يهودي “يعقوب” تربية طفلة مسلمة يتيمة “ريما”. ولما تجاوزت مرحلة الطفولة، صار صعبا أن تظل في بيته لاختلاف العقيدة، وللضغوط العائلية، فاضطر إلى إرسالها إلى جنوبلبنان، حيث كانت تتمنى المشاركة في عمليات المقاومة هناك. وبالفعل، بعد سفر الصبية ريما إلى لبنان، تشارك مع المقاومة، وتستشهد في غارة إسرائيلية. وكانت قبل وفاتها قد تعرّفت على الفتاة اليهودية ندى وصارت صديقتها أيضا، وكلما حدثتها عن أمر ديني أو مبدأ تؤمن به، وجدت أحمد قد حدثها عنه، فتقاربت أفكارهم جميعا. المدهش أن ما تصوره المسرحية كأحداث طبيعية لتكون مقدمة للتطبيع، هي ليست أحداثا طبيعية على الإطلاق، ومن الصعب تصديق أن الأصل الروائي الذي صاغته خولة حمدي مأخوذ من قصة واقعية كما يقال، فلربما تنشأ علاقات بين المسلمين واليهود في مناطق الصراع العربي الإسرائيلي، لكن الاتفاق حتى على السلام والتعايش لا يعني نشوء علاقات طبيعية وقصص عشق وامتزاج اجتماعي على هذا النحو من الانصهار الكامل الذي يمحو الماضي الدامي، كأنه لم يكن. تمثيل الحب أيضا بوصفه الأقوى دائما من الحروب ومن الاختلافات الدينية والمذهبية، هو أمر خيالي، أو مجرد مقترح أو دعوة من صنّاع العمل، لم تلق رواجا لدى الجمهور الرافض للتطبيع، خصوصا عندما استشعر المشاهدون أن المسألة لا تتعلق بالإسلام واليهودية بوصفهما المجرد، فالرسالة ربما تقصد: العرب والإسرائيليين.