يبدو مصطلح »واجب الذاكرة« الذي تحدث عنه، أول من تحدث، في الغرب (العصر الحديث) الكاتب بريمو ليفي كأنه يحدد جلّ التفكير الغربي الحديث. فنحن لو حاولنا أن نقرأ فعلا كلّ الفلسفة الحديثة بأسرها، لوجدنا كم أن »واجب الذاكرة« يحضر بقوة ليكون هو الخيط الذي يلحم بين كلّ شيء. هذا الواجب عند ليفي كان ينبع من تجربته الخاصة في مخيمات الاعتقال النازي الذي نجا منها. من هنا لا بد من أن تجربته الحياتية، كما الكتابية، لا بد من أن تتأثر »بعدم النسيان« كي تبقى هذه الحادثة منارة للتاريخ. بعد ذلك بفترة طويلة، في نهاية القرن العشرين تحديدا، جاء الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير بول ريكور ليقول في كتابه »الذاكرة، التاريخ، النسيان« بضرورة الخروج من هذا النفق وبعدم استهلاك الذاكرة لغايات لا تمت إلى الواقع بصلة. ومع أن الكتاب عرف نجاحا جماهيريا ضخما في فرنسا إلا أن بعض الأصوات، المؤيدة لإسرائيل، وجدت الفرصة لتشن هجومها على المفكر، التي اتهمته بأنه »يشن حملة صليبية معادية للذاكرة«، كما لتعيد تأكيدها على »الشوا« وما أصاب اليهود، وبأن الواجب في العالم هو عدم النسيان. لا أريد من هذه الكلمة لا أن أناقش فكرة ريكور، ولا أن أناقش من اتهموه، بل أريد أن أستعيد فعلا فكرة ليفي حول »واجب الذاكرة«. لِمَ لا يحق لنا، نحن من نسكن هذه البقعة من الأرض أن نستعيد فعلا أو أن نتحدث عن واجب ذاكرتنا. لِمَ تبدو ضحايانا كأنها خارج التاريخ؟ ولِمَ تبدو كلّ المجازر وعمليات الإبادة التي ارتكبت بحقنا من دير ياسين ولغاية غزة، مرورا بقانا والعديد من الأماكن الأخرى كأنها لا تستحق وقفة ما، أو كلمة ما، لنعيد معها مراجعة هذا التاريخ، قبل أن نحيله إلى النسيان؟ قد نفهم الفكر الغربي الذي تأسس على أفكاره، لكن الأنكى ما نشهده اليوم من بعض كتاب العربية، هذه المحاولة لا لنسيان ما حدث، بل هذه المحاولة الحثيثة لتبرئة القاتل وجعله الضحية. تماما كما قال لي احدهم منذ مدة، بأن إسرائيل لم تعتد علينا مرة، بل كنا نحن من يجرها دائما للرد علينا. بالتأكيد لو صدر هذا الكلام عن مسؤول إسرائيلي لحاولنا أن نجد مبرراته، لكن أن يصدر عن شخص يدعي أنه كاتب ومثقف، يوجب علينا أن نقف فعلا لنفهم. على الأقل لنفهم هذه الثقافة الشعواء التي تُرسم لنا اليوم. في أي حال، بعيدا عن أي واجب للذاكرة، وبعيدا عن أي مصطلح تاريخي ومعرفي وما أردتم: هل يحق لنا أن ننسى فعلا؟ سؤال بسيط، إذ ليست هي قضية حق فقط، بل هل باستطاعتنا؟ ---- عن السفير