د. حسام عقل بحركة متوثبة شديدة الثقة يقفز الروائي المتميز ابن الأقصر أشرف الخمايسي (1967 - ...) خطوة نوعية فسيحة في مشروعه القصصي الزاخر بالوعود، حيث يقدم للمكتبة الروائية نصا سرديا مثيرا تتداخل فيه أمشاج وخيوط متناقضة من الانطباعات والرؤى، أعني روايته الأحدث "انحراف حاد". حشد الخمايسي في نصه الروائي الدينامي / التأملي الجديد مجموعة من الأساليب والتقنيات الروائية القائمة على التناوب وتبادل المشاهد والصور والأدوار أو استعادة المشهد ذاته بشخوصه – تكراريا - بمنظور روائي مغاير للنسخة الأولى التي انطلق منها في بؤرة الاستهلال إن ظل سرده مشدودا بانجذاب عرفاني ) صوفي ملحوظ إلى منطقة التأمل الميتافيزيقي العميق في الحياة والموت والمصير والامتداد السرمدي وعلاقة الإنسان بخالقه وبذاته وبالآخر و المفارق رؤية ومعتنقا وهو في ذلك يتم خطا تساؤليا جسورا مثيرا بدأه في روايته السابقة "منافي الرب". لا يبرح الخمايسي في سرده الأنيق، المفعم بخبرات الحكاء المجبول، منطقة بذاتها في رقعة السرد، يطلق عليها النقاد : سرد التطور الروحي، وهو نمط شديد الخصوصية من السيرة الذاتية، الممزوجة بفضاءات السرد الروائي الحر القائم على التخييل المنطلق، ويتمتع هذا النمط من السرد التأملي الروحي بجذور عميقة، تقودنا في رحلة التاريخ القديم إلى اعترافات القديس أوجستين أو المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي وما شاكل هذين النصين من نصوص ناسجة على المنوال نفسه تمضي في طريق تغذية النص السردي بالتأمل الفكري / الروحي العميق في "تجربة الروح"، بكل منحنياتها ومعارجها ومواجيدها العلوية ذات الحس الغرائبي المفتون بلعبة الفانتازيا حين تتوازى مع الواقع في رحلة السرد ثم تتماس مع خيوطه بنزق سردي عنيف، وهنا تبدو بجلاء مساحة التميز التي طرح فيها الخمايسي سهمه الجديد، حيث يصر ابن الصعيد في سرده على إنزال القضية الروحية / العلوية إلى أتربة القرية والحاضرة، بمثل ما يصر على تضفير التكوينين معا في انعطافة واحدة: الروحي العلوي والواقعي اللحظي المختلط بأزمات الأرض وأناسها وحركتها الموارة في حضن الفواجع والمحن . تبدو خلطة الخمايسي في البداية عسيرة حد التعذر والاستعصاء، ولكنه في عجينة السرد المازجة بين المتغايرات نجح في النهاية في أن يجمع التكوينين - المتناقضين ظاهريا - معا في مشهد قصصي ذي نبض موحد ساخن، يصهر قضية الأرض بقضية السماء، ويقرن العلوي / العرفاني بالأرضي / الطيني! وكأنه يقول إن حل الأزمة الروحية العلوية رهين بحل الأزمة الأرضية المتجذرة في أوجاع البسطاء، والمخلوطة بأشواقهم، فلم تكن الأشواق الأرضية في أية لحظة من لحظات التاريخ منفصلة عن الأشواق السماوية، ولم تكن عذابات الروح في سباحتها الباحثة دوما عن التصالح الضروري مع الذات، منفصلة عن عذابات الإنسان المعاصر في التصالح الحتمي مع محيطه الاجتماعي والإثني والسياسي والاقتصادي والحضاري. في نحو من أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، ينسج الراوي عوالمه القصصية الموارة من خلال أشخاص مختلفي المشارب والميول، يتجمعون في سيارة / أجرة، تستهل انطلاقتها من موقف "أحمد حلمي" العريق، فنبدو بإزاء لحظة أرضية تماما تتداخل فيها نداءات السائقين ومشادات الزبائن وجلبتهم التي لا تنقطع ! ولا يدور بخلدنا أن رحلة السيارة وهي تنعطف وتتعطل وتنطلق مجددا وتصعد الوهاد ثم تحط عند الأسفلت، ستغدو _ في الجوهر _ في تماوجات اللعبة الرمزية ومناوراتها، رحلة روحية / إنسانية تفضي إلى محطات المصير، بكل قدريته القاهرة وقوته النافذة! فضل الروائي تقنية السرد بضمير الغائب، متسائلا في مقطع الاستهلال، بنبض تأملي / ميتافيزيقي لا تخطئه العين: "فما الذي يدعو مالك الشمس لأن يطلعها كل يوم من المشارق وفي نفس التوقيت، طوال ملايين السنين الفائتة ولملايين السنين القادمة، إن لم يكن ثمة أمر ، غاية في الخطورة، يربض في الآفاق السحيقة" (ص7). ومن هذه المنطقة التساؤلية العميقة الغامضة، التي جثم عندها طويلا الفلاسفة والمفكرون والزهاد والقديسون، تنطلق موجات السرد الأولى، حاملة مذاقات التنوع الطيفي في أمزجة الشخوص وطبائعهم. كل يضع في المخيلة والوعي تصورا خاصا افتراضيا لرحلة المركبة التي تقلهم _ جميعا _ نحو محطة الوصول أو مرامي المصير. ويتراص في مقاعد السيارة المجند والغانجة (الحسناء) والشيخ والقس فضلا عن آخرين يجمعهم (حلم الوصول) وبلوغ خط الانتهاء! برع الخمايسي في مجازات الصورة الروائية الجزئية، ذات البنى الأسلوبية الطازجة التي منحت الأسلوب نضارة وتوردا حيا ، فحين يمضي أبو أميرة في التحديق في الفاتنة ذات البهاء والغنج، يصف الراوي المشهد بهذا النسق: "نظر أبو أميرة لسوسن، فوجدت عينيه ملتصقتين هناك، منهمكتين في مص صورتها وضخها إلى صدره .. (ص 22 ). إن انتقال حاسة البصر، بطبيعتها الحسية القائمة على الرؤية البصرية، إلى حاسة المص (بطبيعتها التذوقية)، إنما يحمل نهجا مناورا قائما على ما أسماه بعض النقاد" تراسل الحواس"، وهو العتبة الأولى الدالة في لعبة الرمز . وهو أمر لا يبعد بنا كثيرا عن المغالاة التخييلية ) الظاهرة في تضخيم المشهد ، حتى و إن خلا من مناورات اللعبة الرمزية، على نحو ما نجد في وصف ( المشهد الحسيني ) منطبعا في عين (رشيد) وضميره : ( ..الأجساد تتحرك في لحمة واحدة، وقد اتخذت شكل خلية أميبية متوحشة تتمدد في الشوارع ..) (ص 23). ولا يبعد هذا النسق المميز في رسم الصورة الروائية الجزئية _ بذات السمات المتشابهة _ عن تلك الصورة (الناقمة) التي رسمها المقاول العمومي، المفجوع في ابنته الراحلة (زينب) التي نحر من أجلها الأضاحي دون جدوى، بما طوح به إلى دوامة الإلحاد، فبدت صوره المنطبعة مغموسة في نمط عجيب من (الإلحاد العقوبي)، الذي يأتي معه الإلحاد قصاصا انفعاليا من ضربات القدر، لا اجتهادا فكريا يربط النتائج بالمقدمات: "المئذنة، هذا القلم الذي يسطر المقادير، بقمته المدببة مثل نصل خنجر معد دائما للارتشاق في قلوب البشر" ص 25 . وتكاد هذه الصورة النابتة في الحاضنة (الإلحادية)، أن تكون على طرفي نقيض مع ضفيرة مفارقة / مناقضة من الصور العلوية النابتة في الحاضنة (الإيمانية ) الراسخة، الرافلة في السكينة، وهي الصور التي جادت بها _ طوال الرحلة _ قريحة الشيخ والقس. و بدت الصور الروائية _ في المجمل _ مؤشرا للحالة الداخلية _ مدا وانحسارا. ومن نماذج الصور النابتة في الحاضنة العرفانية الصوفية تتألق هذه الصورة "وصار ملح الدموع ينسكب في داخله، ينشع في جدران مواجيده" (ص 26). إن الاتكاء على قراءة الأنساق الشفرية في تتابع الصور الروائية وتدفقها _ هنا _ يوشك أن يكون إجراء أسلوبيا جامعا يستجيب لمقولة المفكر الأسلوبي البارز أولمان "حين دعا المقاربات النقدية إلى قراءة الصور الروائية _ مجتمعات لا فرادى _ للبحث عن نسقها الشفري الجامع الخاص والاهتداء إلى قاموسها الموحد. ولم يكن خافيا على المتلقي أن إصرار الراوي على جلوس الشيخ والقس في الأريكة (الأمامية) فيما يصطف الجلوس الآخرون في المقاعد الخلفية، إنما يحمل في وضعيته المكانية الظاهرة، دلالة رمزية تحيل إلى مساحة الدور الريادي الذي يلعبه قسيما المشهد الوطني وشريكاه الكبيران في مقدمة العربة. سواء أنظرنا إليها باعتبارها (عربة وطنية) أم عربة إنسانية فرضتها زمالة العولمة أو( الزمالة الإنسانية) كما أسماها بعض المفكرين . وبتكثيف الدلالات الروحية المتراكمة لرحلة (الباص)، والتخفف المتوازي من الدلالات المكانية المحددة للطريق والمنعطفات والبشر، تكاد الرحلة المنطلقة من المحطة، أن تكون تجسيدا ل معراج روحي يعلو إلى البرزخ ويشمخ مع السماء . وقد مهد الراوي لذلك ببروز شخصيات رمزية، تتراءى بصورة غامضة مثيرة في فضاءات الرحلة، كشخصية الرجل (الأثيري) الغامض ذي اللحية والجلباب والعمامة الخضراء، وهو الرجل الذي أبصر به أبو أميرة _ للمرة الأولى _ فوق (إكصدام السيارة) ! بحشد التمهيدات المتقاطرة من نسق الصور والأخيلة، تغدو الرحلة معراجا خالصا، مفارقا للصبغة الأرضية / المكانية، لا تتألق في رقعته إلا الزنابق والفراديس والمشاهد الفاتنة العلوية البهية : "ودارت الدنيا مثل دوامة، وانبلج نور في الظلام، وتداخل أبيض مع أسود . وامتلأت السماء بحب اللؤلؤ الوامض، ثم انفتح الأفق على قصر من نحاس، محمول على سنام جمل في حجم جبل" (ص 51). ويستعيض الراوي _ في النسق الرمزي للرحلة المعراجية المتجددة عن براق الرحلة المعروفة تاريخيا ب فرس عفية ) يتشرب معها (المجري) و(الغريب) بإشراقات روحية مجنحة" وعلى الأكمة تقف فرس عفية، كحيلة ينعكس نور الشموس على صفحة رقبتها، وفخذها وتشع غرتها بياضا في منتصف جبهتها، تحمحم بالعز" (ص62). تتواصل الرحلة مع شخصيات المجري وصنع الله وسوسن، مبحرة في قوارب التساؤل الإيماني الكبير، الذي يستهدف _ في الجوهر _ تجديد القضية الإيمانية في الضمائر، لا إزاحتها أو طمس نبضها الحي، ويضاف إلى الشخوص _ في المسارات السردية اللاحقة _ شخصية (زياد) الشاب الجامعي مؤلف القصص . لم تخلص المشاهد السردية المتقاطرة لتيار الداخل الروحي، بسكينته المهيبة، طول الوقت، وإنما رسمت محابر الراوي مشاهد تجسدت في الخارج (عنيفة دامية)، على نحو ذكرنا بالقرية العنيفة الدامية التي رسمها الروائي الكبير الراحل (محمد مستجاب في لوحاته السردية الواخزة ! قد تبدت مشاهد الخارج العنيف في رواية الخمايسي في مشهد خميس) وهو ينحني عند قدمي زوجته الفاتنة نوال المتهمة بالخطيئة، ويقضم بأسنانه لحمها، فيفيض الدم على جانبي فمه: "وعندما رفع خميس رأسه، كان الدم يغطي كل وجهه، ويقطر من ذقنه" (ص154) فهل أراد الراوي _ بدهاء سردي _ أن يقول إن الخطب العصماء للشيخ، والعظات الدامعة للقس، لم تجد شيئا مع هذا الرجل الدامي، الذي أطاح بخطب الشيخ وعظات القس، ليقضم لحم زوجته بصورة سادية فاجرة العدوانية ؟! وهل أضحى الخطابان بحاجة ماسة إلى التجديد كي يردعا خميس عن شره الضاري؟! وتدريجيا تتوزع شخوص الرواية بمضي الأحداث دراميا _ بصورة استقطابية _ بين الفكرة الإيمانية والفكرة الإلحادية، وفي الثلث الأخير من الرواية على وجه التقريب، تميل الكفة نحو الفكرة الإيمانية بوضوح وفرادة، ويصل رجحان الكفة إلى ذروته إذ يلتقط زياد الورقة التي دفعها له المجذوب، وحين يفضها يجد فيها عبارة: "الله ليس سبب المشاكل" وفي فورة هذه اللحظة الحارة _ بعنفوانها الحي _ يهتز اليقين الإلحادي ل زياد بصورة مزلزلة تميد معها أركانه وتتقوض، ليندفع في فضاءات الأحداث، تيار إيماني عارم تعتصم به الشخوص. وإن بقيت أسئلتها تتجدد في الضمائر، حيث يتسيد المشهد فطرة البسطاء لا تنظيرات النخبة الأرستقراطية المعزولة التي ضببت المسار وفرضت عليه العماء. وببلاغة التكرار السردي، المستنسخ لمسارات العربة ومنعطف الصدام في الرحلة، تتأكد وجهة السرد وتسطع فلسفته، فقد فوجيء ركاب السيارة _ في ختام رحلتهم _ بسيارة كسيارتهم تماما وتحمل في داخلها شيخا كشيخهم، وقسا كقسهم، وشخوصا كشخوصهم، تمرق إلى جوارهم وتصطدم وتهوي بعنف نحو المياه، في تفجير ضمني بارع لملحظ يفرض نفسه، ومؤداه أنه كان يمكن لعربتنا _ قدريا _ أن تصطدم كهذه العربة وتهوي نحو المياه مثلها تماما! والمغزى هنا أن القدر يلعب في النهاية دورا نافذا في تغيير المصائر والتساؤلات ومنعطفات الرحلة. وفي التذييل تتألق خاتمة الراوي، حين يقول: "المتعة تبقى دائما في محاولة الفهم" وهو ما تتوهج معه معالم الرسالة الحضارية، الكامنة في فصول الرحلة ومراحلها، فمحاولة الفهم عمل حتمي لتجديد القضية الإيمانية في الضمائر، وتزويدها بكل الدروع اللازمة التي تتقي بها الفكرة الإلحادية الجموح، في سياق حضاري متأزم شهدت فيه مسارات الرحلة الإنسانية انحرافا حاداً عن وجهته، وهو الانحراف الذي لا يعدل مساره نحو حالة السواء إلا الفهم وصدق الضمائر الحية في مسعاها الدائم نحو خلاص الروح. ولم يكن عجيبا من ثم _ أن تكون الرواية التي وصلت بنا إلى هذا المنحى الناضج من فهم القضية الإيمانية وتجديد أسئلتها السرمدية الخالدة، هي ذاتها الرواية التي وصلت بصاحبها إلى قوائم "البوكر" في ارتقاء مستحق لموهبة قصصية، فرضت ذاتها على صدارة المشهد القصصي، بأداء سردي رشيق ونبض أسلوبي متجدد، يفر من اللغة المستهلكة.