منذ المشاهد الأولى يتبدى الأسلوب السينمائي الذي اختاره زافييه دولان لفيلمه "فقط إنها نهاية العالم" "juste la fin du monde "من إنتاج فرنسي وكندي مشترك؛ حوارات تطول بين شخصيات مضطربة ونقطة رئيسية يدور حولها الفيلم ولا يصل بها إلى أي هدف هي احتضار البطل الكاتب لوي كنيبر ويلعبه "جاسبار أوليل" ورجوعه إلى عائلته كي يُخبرهم عن هذا الموت بعد 12 عاماَ من الفراق، إنه يُريد أن يكون محور العالم في مرضه لكن العالم لن يدور حوله للأسف، عالمه فقط هو الذي سينتهي. ما يبدو منذ البداية أيضاَ تلك القدرة العميقة على التأثير في المُشاهد. سواء أعجب الفيلم الحضور الكثيف في المسرح الكبير بدار الأوبرا بالقاهرة، أو لم يُعجبهم فقد خرجنا جميعاَ – دون نفي للاستثناءات- غارقين في حالة الكآبة الثقيلة التي ربانا عليها الفيلم خلال ساعة ونصف هي مدة زمنه ثم أطلقنا دون أن نصل إلى ذروة، كآبة مُبررة بأن الفيلم مأخوذ عن أصل أدبي؛ مسرحية بالاسم نفسه للكاتب جان لوك لاجارس، والمسرحية أيضاَ كُتبت بتأثير من حياة لاجارس إذ كتبها وهو يعيش أيامه الأخيرة معانياَ من مرض الأيدز قبل أن يموت فعلاَ في عمر ال 38 عام 1995 وقبل أن يتفرج على الفيلم المأخوذ عن عمله على يد المخرج العشريني زافييه دولان. فيلم دولان يتحدث كذلك عن الفن ويحافظ كما تنقل مقالات النقد الغربية على الثيمات الرئيسية للحكاية، هذا الشاب المثلي كاتب ناجح يعيش بعيداَ عن عائلته منذ سنوات، يتواصل معهم فقط من خلال بطاقات البريد والرسائل التي هي بلا معنى أو إحساس، ولسبب لا يُخبرنا عنه دولان يختار "لوي" أن يعود إلى مدينته الأولى وأن يخبر الأهل عن احتضاره بمرض لا نعرف عنه وربما ليس مُهماَ أن نعرف عنه، هناك ستتدفق حوارات تحتفظ بالروح المسرحية بين الأبطال، الأخ أنطوان ويلعبه فينست كاسيل يواجه لوي بالوجه الفظ لذلك الماضي باستمرار، والأخت الشابة والوحيدة سوزان تتعلق كثيرا بأخيها وتلعبها البطلة الشهيرة ل"حياة أديل"، ليا سيدو. في الحيز نفسه تقف زوجة الأخ كاترين- ماريون كوتيار- توجه لوماَ متواصلاَ إلى لوي وتتحدث بلا انقطاع عن أطفالها الذين لا نراهم أبداَ في الفيلم ولا نرى آثارهم كما يليق بعمل مسرحي تدور الأحداث فيه بعيداَ عن المشاهدين، الدور المحوري والمُبعد أيضاَ يكون لأم لوي "ناتالي بي"، تقدم الأم مع ابنها الصامت مشهداً ممتلئاً بالتراجيديا، تطلب منه أن يهتم قليلاَ لكلام أخيه أنطوان وأن يدعو شقيقته التائهة إلى قضاء أجازة في بيته الجميل. إنها تبدو كما لو أنها تعرف عن حقيقة موت ابنها أو اقتراب هذا الموت، إنها تبدو كما لو أنها تعرف أن هذه ستكون الضمّة الأخيرة، وهي تقول له "الموهبة والحظ والثراء أشياء تولد معك بالفطرة"، إنهم جميعاَ يعرفون على نحو ما الحقيقة التي لم يُخبر بها لوي، لكنهم يصمتون لسبب نفسيّ لا نستطيع معرفته فقط نتكهن. كما أن لوي ذلك الكوكب الذي تدور حوله النجوم لا يتكلم أصلاً إلا في مونولوجات قصيرة مع نفسه أو مع آخر عبر التليفون ويرتفع صوت سكوته الغريب مُستفزاَ، إن الدور الذي على المُشاهدين أن يلعبوه في هذه المسرحية / الفيلم هو أيضاً ألا يوجهوا أي أسئلة إنهم يشاهدون سقوط البطل وليس بإمكانهم طرح أي تساؤل عن أسباب هذا السقوط أو جذوره. يتداخل النص السينمائي مع النص المسرحي بحميمية ويحكي أصلاً من وجهة نظر كاتب يستعد للمغادرة ويميل إلى تحليل شخصيات من حوله والوصول ربما لنتيجة معروفة بالنسبة له سلفاَ عن عائلته المريضة وقد طردته يوماً من بيتها، طرد مجازي ربما سيستند، إلى مثليّة البطل، أو على الأقل خصوصيته في رؤية العالم بذلك الكم من التفلسف الذي يورط على إثره من حوله في دلالات متشابكة ومُتهمِة دائماً، في الواقع لا يتحدث الأشخاص العاديون عن الحياة بذلك الوعي الشديد بالوجود الذي مارسه الأخ أو حتى مارسته الأم، لذا يتشكل الفيلم كما كان متشكلاً من قبل العمل المسرحي؛ محاورات طويلة ومنفعلة حدثت فقط في عقل الكاتب المسرحي المُحتضِر ولم يصل بها إلى أي شيء. إن البطل لا يعود إلى موته فقط، إنه يعود تقريباً إلى موت الجميع في خياله، وفي الواقع بهذه الأجواء الصفراء، كما أننا نتعرف مثله لأول مرة على موت حبيبه الأول بمرض السرطان، كأنها نبوءة مُحققة بموته هو الذي لا مفر منه. أبرز ما في عمل دولان الذي نُفذ بمساعدة نجوم كبار وأبطال مشاهير هو ذلك الانتصار إلى الفنان حين يُصبح هو العالم وكل ما فيه، على مستوى الموهبة السينمائية قدم دولان أداءات بارعة وخاصة للجميع، حتى ماريون كوتيار لا تشبه نفسها في أفلام أخرى، وليا سيدو أُطفئ اشتعالها النادر في "حياة أديل". أما البطل "لوي" فقد بقي في الظل لا يمكن حفظ ملامحه ولا صوته، وحتى النهاية الميلودرامية لمشهد العصفور الذي يتوه في البيت قرب رحيله ويسقط ميتاَ في اللحظة الأخيرة من الفيلم كم كانت تليق به.