لماذا تبدو الكتابة عن فيلم داليدا صعبة إلى الحد الذي يجعل مُحصلة المقالات المنشورة عنه على قاعدة بيانات الأفلام العالمية لا تتجاوز الأحد عشر مقالاً ومعظمها باللغة الفرنسية؟ هناك أسئلة على النقد السينمائي أن يرّد عليها بخصوص الفيلم الفرنسي الجديد، أسئلة عن الوجهة التي يسير إليها في بحثه عن معنى للسينما، وعن فلسفته في اختيار أفلام مُعينة لإظهارها والتعامي عن أفلام أخرى لو أنه لديه فلسفة. وهناك أسئلة أخرى على المسئولين عن توزيع الأفلام أن يرّدوا عليها؛ مثلاً خصصت سينما زاوية الشهيرة بعرض "الأفلام الفنية" في القاهرة ثلاثة عروض تقريباً لداليدا على مدار اليوم، وفي الأسبوع الثاني قررت أن تُخفض العدد إلى عرضين فقط، تمهيداً لرفعه وإعطاء مكانه لأفلام أخرى، أفلام ربما من عيّنة "لا لا ند" الذي دعمته الزاوية بالدعاية والإبقاء والإغراء تماشياً مع هوسة جماعية ودولية بالفيلم، أبقته على شاشتها لشهر تقريباً. أسئلة لا رد لها على الأرجح، لأن الحياة تسير كما تسير عروض الأفلام دون توقف لإصلاح أخطاء أو لمراجعة الذات، ولأن كلمة المال السهل أو المتوقع من كلمة المال السهل هي التي في النهاية تقرر الطريق وتقرر الضالين عن الطريق. أما الأسئلة الوحيدة التي يمكن إيجاد إجابات حانية لها، فربما تكون المتعلقة بداليدا نفسها المطربة صاحبة النجاح الاستثنائي، وبالمتن السينمائي الذي تم إنجازه بصبرٍ طويل وبرغبة في تحرير حياة يولاندا جيجوليتي من فردانيتها المُتوهمة كفانة كبيرة انتحرت يوماً ما تاركة ورائها عبارة رقيقة عن السماح، إلى إطلاقها في سماوات أوسع تلتحم فيها تجربة داليدا مع حيوات أعداد لا يعرف أحد أن يحصيها من البشر المُعذبين بالهواجس نفسها، وآلامها المتشابهة. الحياة التي تسير نحو الحُب لا الموت، وتأثيرات الطفولة ولا يمكن محوها أبداً، أو كالحديث عن الإحساس بالذنب وقدرته الشنيعة على تدمير الناس ودفعهم إلى الانتحار، وسؤال أول وأخير عن دور الفن في إنقاذ فنانيه. عملياً، لم يخرج فيلم ليزا أوزيلوس المأخوذ عن مذكرات شقيق داليدا "أورلاندو" عن القصص الشائعة على الإنترنت من حياة يولاندا، فمَنْ قرأ يستطيع أن يفهم على نحو أفضل مِنْ الذي لم يقرأ، لقد أعطى الفيلم لهذه الحياة لُحمتها، وهو أمر عظيم لو لم يُحقق غيره، وكان الفيلم يتقدم من مشهد إلى مشهد وفقاً لبوصلة واحدة هي الإحساس، الدفقة الشعورية التي تتكون من الاستماع إلى أغنيات داليدا، من مشاهدة بهجتها وهي تُغني وترقص، ومن أعداد الصور الكبيرة التي تركتها حولها؛ باختصار الإحساس بحُب داليدا والتعاطف معها إذ يقترب من تقمصها وهذا بالضبط، أعني نهوض الفيلم على الشعور هو الذي يجعله يبدو بلا زمن محدد له، صحيح أنه يحاول أن يترتب قليلاً بناءًا على حوادث انتحار أحبائها وذروات مجدها الفني، لكنه يبقى سائحاً في مُخيلتنا كأننا نفتح ألبوماً للصور، غير مُرّتب حسب عُمر، إنه يجعلنا نحلم باليوم الذي أُخذت فيه الصورة، وعلاقته بباقي الأيام في حياة أصحابها، باختصار يصنع هذا الارتباك الزمني لداليدا زمناً جديداً تهيم فيه سفيفا ألفيتي(الممثلة الإيطالية التي لعبت شخصية داليدا) من ألم إلى ألم حسب مُحرك واحد هو الحُب، أو بحثها عن الحُب النهائي. هكذا فإن العنوان الرئيس لحياة دالي هي جملة بسيطة ستقولها وهي نائمة على صدر حبيبها الإيطالي لويجي تينكو قبل انتحاره"تسير الحياة نحو الحُب لا نحو الموت كما قال هايديغر"، ودالي هي التي ستقول بعد ساعة من مطر القدر السخيف بالفيلم لمحللها النفسي إنها قد حاولت كثيراً أن تتحاشى الموت لكنه يحوم حولها. كان لوسيان موريس مُكتشفها وأحد داعميها الأوائل يصف جمالها بالخارق، ولم يقصد الجمال الجسدي (وذاك لم ينقص داليدا قط) لكنه كان يشير إلى شيء أعمق دائماً، هو الذي أحبها وهي معه مرّة وحين غادرته مرّتين، كان أكثر العارفين ربما بما تعنيه داليدا. شيء في سؤال داليدا الفيلم إجابته في داليدا المطربة. لماذا داليدا أصلاً ؟ ربما تكفي حياتها الدرامتيكية والفائضة عن قدرة احتمال شخص واحد للتبرير، أو الصدى الذي لا يذهب لصوتها الذهبي بعد عشرات السنين من موتها، لكن نجمة صغيرة تُجيبنا تلمع في الشهرة الكبيرة لرسالتها الأخيرة قبل الانتحار"سامحوني الحياة لم تعد تُحتمل بالنسبة لي"، عشرات الأفلام التسجيلية والروائية قصيرة وطويلة صُورت عن لحظة مغادرة داليدا بوهجها كله، هذه هي النجمة الجاذبة في رواية داليدا، لأننا نحس أن داليدا الطيّبة قد انتحرت نيابة عنّا، كما أحبّتنا وسارت بين صفوف محبيها دون خوف حين زارت مصر مثلاً، لأنها غنّت لنا بينما كانت تتألم، لأنها تعرف أننا نتألم أيضاً وسنتألم، ولا يُحسن كثيرون منا التعبير عن أنفسهم. من هذه الجهة للرؤية حقق فيلم "داليدا" ما كان يريد أن يحققه منذ كان مجرد فكرة في عقل مخرجته، صحيح ما كان يراه أورلاندو إن فيلماً حقيقياً عن داليدا يحتاج إلى مخرجة امرأة، قد جذب عشاقاً جدد لأغانيها، منح ألحانها فرصة متجددة للوصول إلى هؤلاء الذي اُبتدعت من أجلهم، جعلهم يحسون إنهم أقرب لها، وهم أقرب منها. كان الأسهل على داليدا أن تهرب من أحزانها في أغنيات فكاهية عن الحُب وعن الهجران أو الفراق، لكن صوتها كان أعمق دائماً، شيء يشبه الطائر العملاق، وربما الأسطوري؛ أما سفيفا ألفيتا بطلة داليدا فهي ساحرة وواحدة من أهم نجمات هذا العمل، وعندها نصف سرّه، خصوصاً حين تقف في اللقطة الأخيرة بعد الانتحار مُتضرعة إلى (اسمها داليدا) داليدا خالدة، والفيلم ستُعرف قيمته مع الأيام، هذا ليس كلاماً عاطفياً، أو أن العاطفة هنا كل شيء لحُسن الحظ.