بخليط من دوستويفسكي وكافكا وهزلية أمادو، يرتكب الروائي وليد السابق، خطيئته الروائية الأولى، ويبدأ ذروته السردية في رواية «أصل العالم» بجملة افتتاحية صادمة: «لقد قتلت رجلاً»! القاتل اسمه يوسف. ليس ابن أحد نعرفه؛ ولا أخ أحد نعرفه. كأنه ابن العناصر الأولى، ابن الطوطم. هلامي المنشأ، والروح المرفرفة على وجه الماء. بطل قاتل، لكنه بطل كل ما حوله ميت أصلا. كأن جريمته تلك، لم تخدش وجه الحياة ولا حركت في فوضاها شيئا ولا أقلقت ناموسها، أو ناقشت مسلماتها أو هزهزتها. يوسف القاتل، لم يكن حيّاً ولم يساعده أحد أن يحيا أو يدافع عن حياته أصلا، فيهرب من خوفه من الموت، إلى خوفه من الحب، إلى خوفه من الحياة ذاتها، ليموت بعدها من أجل لا شيء؛ كما عاش من أجل لا شيء، كأنه يحكي عبث وجودنا الذي نتلهى عنه، بالثروة، بالشبق، بالنزوات، بالفن. لكن يوسف القاتل، هو الوجه الحقيقي لحياتنا خارج بهرجتها، ومزاجها الملون، خارج كرنفاليتها والسيرك الذي ينصب بدون مبرر في كلّ الأزمنة ويتقن فيها البهلوانات أدوارهم البسيطة والمركبة، الممتعة والمملة، المنغمسة والمنسحبة، في لعبة هي مسرح، يخرج الجميع فيها أرانبهم من جراب السحرة ومن مخيلة الأفاقين، في مكان يدعى الحياة. مدينة هاجعة عاش يوسف في مدينته الهاجعة، وحوله النهر، الريح، الضوء، الجسور، والموتى في المقابر. مدينة ليست «الميتروبول» النابضة، الحداثية، بأسئلتها المعقدة وخلطة أحكامها الأخلاقية حيث يصح كل شيء، لأن البشر الحداثويين طوروا كل شيء، طوروا فكرتهم عن الله ليقتربوا من الخلاص. طوروا فكرتهم عن العدل، ليتخلصوا من صورة الله المخلص. طوروا فكرتهم عن الغفران كي يكسروا صورة الله العادل المحاسب، بحيث يستطيع انساننا «الحالي» أن يعيش بلا سلطة أو أن يجادل ويعترك مع السلطات. لا اسم لمدينة يوسف، بل لها ريف ممتد وجنرالات. في تلك الجغرافيا الغرائبية، تكون الحقائق سهلة، وبدائية وفجة. الحقائق غير ملونة. المرأة فيها جميلة ومشتهاة؛ المرأة هي نعيم «طوباوي» يطرد الفقراء منه، لا لأنهم غير جديرين بالنعيم، بل لأنهم فقراء، فقراء مخيلة أولا. يوسف الذي داعبت المرأة نصف العارية مخيلته، لم يتجرأ أن يقضم تفاحة الحياة من على سرّتها، ولم يشرب من ينبوع سعادة محياها ماء الحياة والدفء، أو شهوة البقاء. لم يستمد من جمالها ذبذبات الحواس، أو يتعلم شجع الطامعين بالعيش. يوسف لا يعني ما يفعل، ولم يكن يدري سوى أن العبث، واللامعنى قاداه إلى جريمته. فيوسف «القاتل» ليس قاتلا مجرما آفاقا، قاسي الفؤاد، عديم الرحمة. هو قاتل مسكين، تبكي من أجله كل صفحات الرواية، تبكي عزلته، ولا قصدية جريمته، تبكي هروبه من امرأته، ليس لأنه فقير فقط، بل لأنه أجبن من أن يعيش، لأنه فقير مخيلة أولا، زحف على أرضية مدينة بلا خيال وهو ملتصق بالتراب، يخاف ارتفاع الشهوة، وارتفاع الحلم، وارتفاع الرغبات، عاش على حواف المدينة الكابوسية/ المدينة المنقسمة بين أبيض وأسود، بين غني وفقير، مدينة البساطة التوراتية، حيث هناك فقراء طيبون، وأشرار جشعون، يذهبون كلهم إلى الموت، لأن لا أحد يطالب بهم، لأن لا شيء آخر يفعلونه! العزلة والأسى في رواية «أصل العالم» للروائي وليد السابق تنزاح الخصوصية المكانية لمصلحة تعميم حكائي، فيه بساطة الأقصوصة الأولى ورعبها، وأحكامها القطعية، حيث لا عودة عن الحزن، ولا مكان إلا للعزلة والأسى. إن كان لأمكنة أن تدمغنا بصفاتها وتحتلنا بأمزجتها، فقد استطاعت الثلوج الكندية وشتاؤها المقيم، أن يحتلا مزاج هذا الروائي السوري، الذي يقيم في مونتريال منذ 16 عاما، إذ ترشح من مفاصل الرواية الأسئلة الأخلاقية الوجودية الأولى، حول القيمة والمعنى والعدل، كلها تصطرع مع العبث الذي يبدو بطل الحدث. يوسف القاتل يميت رجلا بدون سبب، ليدفن رجلا يشبهه بلا سبب، ثم يسرق جثة الرجل الميت، ليحل الميت «ذاته» مكان يوسف. موتى يتبادلون أدوار الموت في أسى مذهل ولا معنى مرعب. يغادر يوسف مكانه ليذوب في مكان جديد يلفظه؛ وبعد عناء التخفي في مدينة بائسة بلا أسرار، وبلا مجرمين، يقرر يوسف أن يموت، لأنه لا فرق، فعند موته الأول لم يجد من يرثيه، ولن يجد من يفتقده في موته الثاني. «أصل العالم» رواية متقنة، محبوكة بحرفية عالية، كتبها روائي يعلم تماماً ما يفعل، لم يعانِ كتابُهُ مشاكل العمل الأول، فحكايته مضبوطة الإيقاع، تكتيكه مكثف، لغته على الرغم من تقريريتها لكنها أدبية باحتراف. وليد السابق أديب سوري ناج من الملهاة السورية ومحنتها ومخاضاتها العسيرة، يكتب عن أصل الشرور، عن القتل، عن «أصل العالم».