بعد تجاوزها المئة عام، سيحق للسينما استعادة حقوقها من باقي الفنون، وممارستها الهيمنة التي تستحقها على الأدب تحديداً، ففي إطار تفاعلي (صوري / لغوي) سيحق للسينما أن تقفز بتكنيكها، وهندسة بنائها الصورية، وتقتحم السرد الأدبي الروائي، فلطالما تم التعامل بغلواء وتشفٍ مع السينما على اعتبارها، مخلوقا هجينا تم تجميع قطعه من فنون عدة، وإعادة تدويره، لينتج بالنهاية فيلما ما جديراً بالفرجة، إلى أن أتى دورها وطغت بجمالياتها على باقي الفنون. عندما كتب عتيق رحيمي رواياته، كتبها كسينمائي مخلص للأدب، كتبها كابن عاقل، أتٍ من الأدب إلى السينما، أما الروائي الروسي فاديم ليفنتال، ففي روايته الأولى «ماشا ريجينا» يبدو كأنه يكتب من منطقة أخرى، من منطقة صورية أولا، ليعيد انتاج التكنيك السينمائي حكائياً، وليكون قطعه المونتاجي، واستعادات الذاكرة الوامضة ال «flashes» حاضرة على امتداد تعدد الأزمنة داخل الرواية. حفيد بوشكين، غوغول، تورجنيف، توليستوي، تشيخوف، ديستويفسكي، يبدو غير عابئ بالإرث النثري / الروائي الذي أتى منه، ويبدو في إيقاعه ونبض كتابته، أقرب للكتّاب الأميركيين، فاللغة الانكليزية التي يتقنها، والتي يشبك مفرداتها في لغته الحياتية، في المقابلات التلفزيونية، وحتى في المقالات النقدية التي اختص بها، تلقي بظلها الناعم على كتابتة السلسة. ويظل البطل الوحيد الذي احتفظ به من منبته الروسي، هو بترسبرج، المدينة الملكية التي سكنها مبكراً، بحيث تبدو حاضرة بعمارتها، بضوئها وفتنتها، ويبدو التسكع في مطرها وثلوجها ممتعا لمن عاش حياته بين مسارحها ومعاهدها الفنية. في ماشا ريجينا، يكتب فاديم فنتال عن صبية تسللت السينما إلى حياتها بالصدفة، بسبب شعرها أحمر اللون، فتبدو دميته المتخبطة كشخصية أصيلة في فيلم، فتاة أتت من الريف البعيد لتصبح مخرجة ملهمة، فتاة الستة عشر عاماً عشقت الرسم، وبالنهاية وجدت نفسها ملقاة كلها في الكادرات، والمونتاج، وإدراة الممثلين، الصراخ، الحب وروح المدينة. وجدت نفسها هاربة من حكايات البيت، وخيبة الأهل منا وخيبتنا فيهم.الشخصية الأخّاذة ماشا، تبدو حقيقية وممتعة، بأرقها المزمن، وشهيتها غير الكافية لأي شيء، للطعام، أو لاتمام الحب، فتقفز بأفكارها، وجدّتها، من حضن إلى حضن، كما تقفز من كادر إلى كادر، فكل سؤال يواجهها، تظل تسأله لرجلها القادم، كأن أسئلتنا لن نجد إيجاباتها إلا مع من شاركنا الحكاية، فنجد ماشا في استعادات عشوائية، تبحث عن تفاصيلها في العلاقات التي تشاركتها مع رجال عشقوها بطرق مختلفة، وأحبتهم بطرقها المختلفة أيضا. ماشا ريجينا، كتاب ممتع للغاية، غير مرهق، ونابض من دون أسى، أو احساس بالنهايات، السينما الحاضرة به، تلقى بك في روح الشباب، وفي الانشغالات الفنية للأحبة والعشاق، تشعرك الرواية أنك على قيد الحياة، وأن أمامك وقتا طويلا للحب والفشل، والحب من جديد، في الرواية، أسئلة ملحة لا تبغي التأمل، بل تبغي إيجاد الجواب، هكذا بإصرار وسذاجة، تبحث ماشا ريجينا عن الأجوبة، وعن نفسها، لأنها فتيّة، فالتأمل نقيا من النوايا، ما يريده الكبار العجائز، لكن الشباب القاسي بطبعه، سهل الانكسار، الذي يربي الأحلام بخفة ساحر، يظل يسأل كي يجد الأجوبة، ويعيد صياغة حياته. في الرواية جرعات من الأدب الرفيع، وأفكار عميقة، ومع هذا لا يمكن تجاهل حضور التكنيك السينمائي في الرواية. فعندما كتب فاديم فانتال الروائي الشاب وهو من مواليد العام «1981» روايته، صحيح انه حكى بقدرة روي متماسكة، لكنه ظل منحازا للسينما التي دغمته لغويا، في خلطة سردية أنيقة مشذبة. الصورة وحدها قبل أن تخترق السينما الأدب، وقفت الصورة عارية من المعنى، وقفت لوحدها، فعندما اقتحم القطار الواصل إلى محطة لاسوت، الملتقط على الشريط السينمائي الأول، رواد المقهى في باريس، لم يسأل أحد الأخوين لوميير عن أدبية ذلك، واكتفوا بشيطانية ما حدث وجنونه، وخروج المارد المتحرك من قمقمه، كانت السينما عندها نرسيس الذي سُحر بصورته الملتقطة في يقينه للمرة الأولى، فضّت الصورة براءة المخيلة في ديناميكيتها للأبد، عبر إيجاد حالة متحركة ليست فوتوغرافية، بل متطابقة تماماً مع الواقع المتحرك، وبدأنا «نرى» أنفسنا بحركتنا، منتشين ومخمورين، لكننا بالمقابل عندما أشبعنا، بدأنا نبحث عن المعنى، عن الدراما، عن الحكاية التي (قد، وقد لا) تبرر معنى الوجود، وكُرّس عندها بشكل فاضح، اقتحام السينما للأدب ونهب حكاياته. في ماشا ريجينا تداخل أخّاذ بين أنواع الفنون، تداخل غني لا يمكن انكار متعته والتورط فيه للآخر. (]) صدرت الرواية عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، ترجمة: د فؤاد مرعي