في أواخر عام 1985 ، أُقيل الدكتور عبد السلام عبد الغفار _أمد الله في عمره - من وزارة التربية وعُين بدلا منه الراحل الأستاذ منصور حسين ،وكان هذا حدثاً جللاً حقا يثير علامات استفهام ودهشة بشأن ما يتصل بمعايير اختيار الوزراء وعزلهم ،وخاصة بالنسبة لهذه الوزارة المنكوبة حقا .. كان الدكتور عبد السلام عميدا بالانتخاب لكلية التربية ، أكبر وأقدم كلية تربية في الوطن العربي ، وكان في بدء عمادته لفترة ثالثة ،وهو أستاذ علم نفس كبير ، أما الراحل منصور حسين ، فكان من موظفي وزارة التربية ، بدأ السلم الوظيفي من أوله حتي صار وزيرا . وكجري عادة المنافقين في كل عهد فوجئنا بمن يذبح " خروفا " علي باب الوزارة ابتهاجا بذهاب عميد التربية العظيم ،ومجئ منصور حسين ؟! ساعتها كتبت بعض المقالات علي صفحات جريدة الأهالي في عصرها الذهبي عندما كان توزيعها لا يقل عن مائة وعشرين ألف نسخة منتقدا ما حدث ،وكان أبرز ما كتبت مقالا عن وزارة التربية بين المتخصصين والمختصين ، يبدو أنه أثار الراحل منصور ، فإذا بمن يكتب في إحدي الصحف ، بتحريض الوزير أو نفاقا له ،مقالا بعنوان ( لا أيها الكاتب الشيوعي ) ،ويقصد بالشيوعي هنا كاتب هذه السطور لأن الأهالي كان يقودها ثلة من الماركسيين ، قبل أن يتم التحول الكبير للحزب والجريدة منذ انتخابات عام 1990 من حيث " الموالاة " ، علي حد تعبير إخواننا اللبنانيين . ومن الغريب أن يكتب آخرون _ بتحريض من وزير التربية في ذلك الوقت أيضا أو نفاقا له -في أوائل القرن الحادي والعشرين متهما إياي بأني من أنصار الإخوان المسلمين ،لأنني كتبت في جريدة ( آفاق عربية ) التي كانت تحت رعاية الإخوان، وهذا ينبئ بمعيار التوصيف في ثقافتنا مع الأسف ، حيث تم تصنيفي بالشئ ونقيضه ! ومن المحزن حقا أن يمر ما يقرب من خمسة وعشرين عاما ، ثم أجد نفسي مدفوعا إلي الكتابة في الموضوع نفسه ،وكأن عجلة الزمن لا تدور ،وهي مأساة حقا ، أن تمر عقود إثر عقود ، فإذا بك مضطر إلي أن تعيد مناقشة قضايا قديمة ، لا لإفلاس فكري ، بل لأن الجمود والتقهقر هو سمة حياتنا مع الأسف الشديد .. ومع ذلك فهناك فروق مهمة بين الحال بالأمس والحال اليوم: فوزير التربية المقال سنة 1985 كان أستاذا كبيرا في العلوم التربوية والنفسية ، بينما الوزير الذي أقيل في زمننا الحالي كان مهندسا ، أي مثله مثل الذي حل محله ، حيث أن رئيس الوزراء مهندس أيضا ، ولابد من النزعة القبلية في عملية الاختيار .وإذا كان منصور حسين لم يكن أستاذا جامعيا مثل من تولي حاليا ، إلا أن الرجل علي أية حال أمضي عمره كله في دهاليز وزارة التربية مستويات العمل فيها ، بحيث كان علي دراية بكل ما يتصل بها ، بينما الحالي لم تكن له بعالم التربية أية علاقة . لا يبادرن أحد فيقول إن الحالي كان أستاذا جامعيا ، فهو أولا أخذ يعدو عدوا وهو صغير السن ،بحكم أنه ابن وزير سابق كان يحظي برضا القيادة السياسية فلم يتمرس الحالي طويلا في عملية التدريس ، كذلك فليس كل من درّس ،وخاصة خارج المدارس ، يعتبر علي دراية بأصول وقواعد العملية التربوية ، مما كان سببا وراء حرص الجامعات المصرية ، عدة عقود علي تنظيم برنامج مكثف لتأهيل أعضاء هيئات التدريس للوقوف علي بعض اساسيات الثقافة التربوية والنفسية ، اعتمادا علي ليس كل من عرف علما بقادر علي أن يعَلّمه للآخرين . كانت الفكرة الأساسية في مقالي السابق _ والحالي _ أننا يجب أن نفرق بين " المختص "والمتخصص"، فالمختص هو من يكون مسئولا إداريا أيا كان مستوي المسئولية ، من أصغر مستوي إلي أعلاه وزيرا ، أما المتخصص ، فهو الذي يكون علي علم ودراية بالفن الذي يقوم عليه العمل ، وقد يجتمع الأمران معا في بعض القيادات ، كما نري في وزارات كثيرة ، مثل الدفاع والمالية والأوقاف والداخلية والنقل وغيرها ، فوزير كل منها يعتبر مختصا ومتخصصا في آن واحد ، أما وزير التربية ، فهو مختص وليس متخصصا في الفن الذي يقوم عليه عمل التربية والتعليم ،وإن كنا قد سمعناه قد بدأ يعرف بعض الأفكار التربوية التي التقطها ، فأخذ يرددها في لقاءاته التلفزيونية المكثفة ، حتي صار نجما يحتل موقعا مهما في أحاديث الناس ،وهو الأمر الذي يبدو أنه يستهويه بشدة . وقد يبادر بعض من له ذاكرة تاريخية جيدة بالإشارة إلي عدد ممن تولوا أمر التربية والتعليم في مصر ،وكانوا عمالقة حقا ، ومع ذلك فلم يكونوا ممن يمكن وصفهم بالمتخصصين ، ومن هؤلاء العظام : علي مبارك ،وأحمد لطفي السيد ،وطه حسين ، والسنهوري ،والدكتور هيكل ،والدكتور حلمي مراد ،ومن شابههم ،وهذا حق ، لكن مثل هؤلاء هم من فئة ثالثة تعلو علي الفئتين الأولي والثانية ، المتخصصين والمختصين ، ألا وهي فئة " المفكرين " ، فالمفكر هو من يملك رؤية فكرية كلية متعمقة شاملة، حيث يري الغابة ، قبل أن يري الشجرة ..مثله مثل من يركب طائرة " مروحية " تطير فوق المواقع ، فيري ما المدينة أو القرية كأنها خريطة كلية ، فيعي العلاقات بين العناصر المختلفة ، ومختلف الدروب والطرق في صورة كلية واحدة ، أما كل من الفني والمختص فمثله مثل يمشي في المدينة علي قدميه ، يري التفاصيل ، لكنه لا يري الصورة الكلية. ومثل هؤلاء الذين سقنا أسماء بعضهم ممن يملك مشاريع فكرية ، ينظرالتاريخ إليهم باعتبارهم فئة تفوق غيرها بكل تأكيد . وليس صاحبنا الحالي ممن عرف عنهم أنه من أصحاب الرؤي الفكرية ،وسلوكه الذي عرفناه منذ تولي الوزارة يينبئ بذلك ،وأنه ليس أكثر من " شرطي " أتيحت له الفرصة أن يكون "مختصا" بوزارة التربية والتعليم ، دون أن يكون " متخصصا " في أمر الفن الذي تقوم عليه ألا وهو الشأن التربوي . بل إن هناك فئة رابعة ، ربما تقترب من الفئة الثالثة ، من حيث الرؤية الكلية العامة التي تتجاوز حدود " المختص " و " المتخصص " ، ألا وهي فئة السياسيين ،وهذه فئة ربما انقرضت إلي حد كبير منذ ثورة يوليو مع الأسف الشديد ،ونقصد بالسياسي هنا من تمرس بالعمل السياسي قبل أن يكون وزيرا بعدة سنوات، لكننا نجد معظم من أصبح وزيرا ، يجد نفسه فجأة ذا موقع سياسي ( وزيرا ) فيبدأ في ممارسة السياسة . ولعلنا نذكر هنا علي سبيل المثال كلا من محمود فهمي النقراشي ،وعلي ماهر ،ومن قبلهما سعد زغلول ،ومن بعد هؤلاء _ إلي حد ما _ الدكتور حسين بهاء الدين فالسياسة كما نعلم ، هي القيام علي الشئ بما يصلحه ، أو هي فن الإدارة العامة للمجتمع ،ومثل هذا الصنف يكون متابعا ، قراءة وممارسة للكثير مما يتصل بالهم العام ،ومن ثم ، فعندما يتولي أمر وزارة مثل التربية والتعليم ، تجد لديه رؤية كلية شاملة ، قد لا تكون من مثل نوعية أصحاب الرؤي الفكرية ، لكنها تعتبر ذات اعتبار مهم . فإذا ما جئت إلي صاحبنا الحالي ، لا تجد له شأنا سياسيا بالمعني الذي يعرفه أهل السياسة ،وليس مجرد العضوية في حزب الحكومة ،وإلا ما كان له أن يصل إلي مواقعه التنفيذية ، فمن المعروف أن من النادر أن نجد عميدا لكلية أو رئيسا لجامعة أو نائبا لرئيس ويعرف عنه ميول وفدية أو يسارية أو إخوانية ،وهذا أسوأ نوع من السياسة ، حيث يصعب عليك أن تمايز بين المؤمن عن حق بتوجهات النظام القائم ، وبين من ينخرط في نشاطه الحزبي طامعا في القرب من السلطة ،وحالما بأن يكون جزءا منها . وفضلا عن ذلك ، فإن السياسة لا تجئ بقرار ،وبملء استمارة عضوية بالحزب الحاكم ، أو حزب الحكومة بمعني أصح ،وإنما هي اختيار شخصي تدعمه أنشطة وممارسات ، ومن هنا عندما نجد أن البعض ربما يقال له : املأ استمارة عضوية في حزب الدولة ، حيث سيتم اختيارك وزيرا أو رئيسا لجامعة أو غير هذا وذاك من مواقع إدارية عالية ، يستحيل أن نتصور هذا البعض سياسيا حقيقيا بالمعني العلمي! وهكذا تجد أن وزارة التربية هي أتعس الوزارات حقا ، لأنها قد أصبحت محرومة من هذه الفئات الثلاث : المفكرين ،والمتخصصين ،والسياسيين ، ولا يشغلها _ في الغالب والأعم _ إلا "مختصون" يعطيهم القانون " سلطة " كلية آمرة في قطاع ضخم وخطير مثل التربية والتعليم ،ومن هنا ربما نفهم _ بعض _ ما يجعل " المختص " الحالي ،وليس " المتخصص " ،ولا السياسي ، ولا المفكر ،معنيا بقضية الانضباط بحيث تكون هي " الاستراتيجية " الحاكمة ،متصورا أن الضبط والربط هما و سيلة الدفع إلي العمل والتفكير والتجويد . إن الانضباط أمر لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته ، فيستحيل أن يتم عمل بدرجة جيدة ، في غياب الانضباط ، لكن ما لا يقل عن ذلك صحة ، أن توافر الانضباط لا يؤدي بالضرورة إلي عمل جيد . المدرس في الفصل لا يستطيع أن يقوم بواجبه التدريسي ، إذا ساد الفصل هرج ومرج ،وكثر فيه الغياب ، ذلك صحيح ، لكن مجرد تواجد الطلاب ،وربما إمساك المعلم بالعصا لمعاقبة كل من يخل بالنظام لا يعني أن هناك تدريسا جيدا وتعلما مثمرا ..وهناك نوعية أخري من المدرسين ، لا تمسك العصا ، لكنها ، وفق مواصفات وشروط أخري متعددة ترشد إليها علوم التربية والنفس _ مما يصعب أن يستوعبه مقال - يمكن أن تجذب الطلاب إلي الحرص علي الحضور والصمت للاستماع ، والنشاط في التعلم ،وهذا هو الفرق بين " السياسي و "الشرطي" " ، بين " المختص " و " المتخصص " ،وبالتالي هل علمت أي سوء حظ تعيشه ملايين من فلذات أكبادنا التي تمشي علي الأرض ؟!