أثار قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة ردود فعل عديدة لاتزال تتواصل لما للقضية من أهمية شديدة وتداعيات تمس صورة مصر في الداخل والخارج علي السواء، وهو القرار الداعي الي عدم تعيين المرأة قاضية ثم قيل بعدها ان الموضوع قد تأجل للبت فيه وان توصية الجمعية العمومية تتعلق بارجاء وليس منع تعيين دفعة من خريجات كلية الحقوق المتفوقات في السلك القضائي - وقد سبق وتناولت مع العديد من المتخصصين والاعلاميين واصحاب الرأي هذا الموضوع كل من زاويته.. غير انني اريد اليوم ان اتوقف عند التراجع المجتمعي الخطير الذي وصلت اليه المرأة المصرية في العقد الأول من الألفية الثالثة.. فقد هالني الاستماع الي بعض النساء اللاتي يؤيدن هذا التوجه الذي يستند الي مفاهيم تصورنا أو بالأحري توهمنا انها اندثرت الي غير رجعة واننا لا نقل بأي حال من الاحوال عن الدول التي لا تضع عقبات في وجه حق المرأة في المساواة المطلقة مع الرجل في الحقوق والواجبات كما حددها الدستور المصري، والكثير من هذه الدول هي دول عربية مثل سوريا وتونس والمغرب والسودان واليمن وغيرها.. وتصادف ان دار حوار في أحد البرامج التليفزيونية ذات الشعبية الكبيرة وهو برنامج الحقيقة للزميل وائل الابراشي وشاركت فيه مع استاذة تعمل بالمحاماة!! وذهلت من تأييدها الكامل لمنع اسناد موقع القاضية للمرأة وقد ساقت ذات الحجج التي ساقها معارضو عمل المرأة قاضية.. بل وذهبت الي حد تأييد عدم خروج الزوجة من المنزل الا باذن من الزوج أيا كانت الظروف التي تواجهها، اذ ضربت مثلا بامرأة أمرها زوجها المحارب بعدم مغادرة البيت، فلما مرض والدها مرض الموت.. اعتذرت.. عن زيارته، حتي لا تخالف اوامر الزوج الغائب.. واضافت الاستاذة عن قناعة كاملة ان مكان المرأة بعد الانجاب هو البيت ولكن الادهي انها صدقت علي مقولة "الخلوة غير الشرعية" بين القاضية وأي زميل لها أو حتي متهم أو صاحب مطلب قانوني.. والحقيقة ان منطق وضع العلاقة بين الرجل والمرأة في اطار واحد فقط هو اطار "الشيطان" ثالثهما!! منطق مسيء للرجل قبل المرأة اذ يعني ان الرجل المفترض ان يدافع عن المثل العليا والقيم.. والشرف.. يلقي العبء بأكمله علي المرأة و"الشيطان" الذي تصحبه حتي في غرف المداولة !! وقد رأيت في ذلك نظرة دونية أخطر ما فيها ان المرأة هي التي تتبناه وتدافع عنه بدعاوي "توصف" بانها دينية.. وعندما قلت ان دولا عربية واسلامية عديدة تتقلد فيها المرأة منصب القاضية ولم يحدث "ان سبل لها" حد عينية واستجابت له.. بايعاز من الشيطان.. ولو مرة واحدة.. "أفحمتني" بأن السعودية لا تسمح بتولي المرأة منصب القضاء، وكأن مثلها الأعلي في التعامل والسلوك هو السعودية وحدها دون بقية دول العالم!! وربما كان هذا هو احساسي عندما سبق وكتبت عن الموضوع في "نهضة مصر" مقالا بعنوان "تراجع مجتمعي" ولكني اقر واعترف بانني كنت اتخيل ان الرجل والفكر الذكوري هو السبب لكن ورود هذه الحجج واكثر منها علي لسان امرأة كان المفاجأة المفزعة التي اصابتني بهلع حقيقي من مدي تغلغل الفكر الوهابي في المجتمع المصري وتفشيه بنفس القدر بين النساء وربما اكثر من الرجال- سألت نفسي- هل أنا.. أكيد في مصر؟ مصر التي كانت منارة الوسطية والاعتدال ومصدر الاشعاع التنويري والحضارة وهبت عليها رياح التراجع الظلامي لتلقي بها في مؤخرة الدول التي تحترم المواطنة وحقوق الانسانية ويؤكد دستورها تلك المعاني والذي صاغه عمالقة الفقه والقانون منذ اكثر من نصف قرن؟ لقد كشف موقف الجمعية العمومية لمجلس الدولة عن تراجع خطير بصدد مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات وتسلل خلل مخيف اري انه يفتح باب جهنم للعصف بمعايير الكفاءة والتفوق والاجتهاد بحيث اعطي البعض لنفسه حق "الظلم" بدعوي الاشفاق علي المرأة من عناء مهمة القضاء لتبرير سلبها حقها في تبوؤ المنصب او الوظيفة او الموقع الذي استحقته عن جدارة وتقديم من هم ادني منها تحصيلا او كفاءة عليها لمجرد كونهم ذكورا.. اما السبب الحقيقي غير المعلن فهو سطوة الفكر التمييزي والقهري المتستر بالشرع حيث يزخر التاريخ العربي والاسلامي بقامات رائعة من نساء حفرن اسماءهن في التاريخ بحروف من نور حتي لا نتكلم عن المستشارة تهاني الجبالي والمستشارة نهي الزيني وكل القاضيات الفضليات.. والمحزن ان ينضم قسم من النساء في مصر لكون المرأة في ظل هذا الفكر الوافد لم تعد اما واختا وابنة او زميلة عمل او رفيقة كفاح ونضال وربما صديقة.. بل مجرد شيء لمتعة الرجل او اغوائه او اثارته وفي هذا حط معيب من انسانية الانسان.. رجلا كان او امرأة.. فالله عز وجل قال: خلقنا الانسان.. الانسان! بكل ما تحمل الكلمة من معان.. كما يفتح هذا الفكر باب الفوضي والظلم علي مصراعيه حيث يتجاهل المعايير الموضوعية للكفاءة والارادة والحقوق والمواطنة.. فاليوم المرأة لا تعمل بالقضاء.. وغدا.. لا تعمل اساسا.. وبعد غد لا يتولي قبطي هذا المنصب او ذاك.. وفصل الي "تقنين" او "شرعنة" قصر الوظائف العليا والمحترمة علي اللائقين اجتماعيا!! وهلم جرا في منحدر السقوط.. فالمجتمع الذي يهدر حقوق اي من ابنائه مجتمع يسير عكس اتجاه التاريخ ويتخلف يوما بعد يوم.. اننا في حاجة الي استنفار كل طاقاتنا وبكل شرائحنا لنعيد الي الوطن وجهه الحقيقي.. الجميل لتنطلق طاقات مبدعيه ومتفوقيه كي يحتل المكانة اللائقة به بين الامم.. وطن ينظر الي الامام.. وليس الي الخلف!! وتتذكر نساؤه انه بلد حتشبسوت ونفرتيتي!!