لقد كان مقالي السابق متوجها إلي أمل وحلم وإيمان بأن القدس ستعود إلينا، وسيكون هذا عيدنا، ولقد أردت بهذا المقال أن أستثير المشاعر، والعقول في نفس الوقت، وأن أحفز الهمم في التفكير الجماعي لكيفية تحقيق هذا الحلم، وذلك من خلال فكر نقدي لما يدور في السياسة العربية وهو ما يجعل تحقيق هذا الحلم علي أرض الواقع يبدو بعيد المنال. واليوم أحاول أن أدلو بدلوي في كيفية التعامل مع السياسة اليهودية المراوغة. وقد أدرك كل المحللين السياسيين القارئين للتاريخ بعناية أن إسرائيل تخطط علي مدي واسع بعيد، وتنجح في خلق عداء لها في المنطقة، ثم تستثمر هذا العداء في تحقيق المكاسب. ولا شك أن أي إنسان لديه موضوعية في الرؤية سيدرك أن نشأة هذه الدولة قامت علي الاغتصاب والإرهاب، ولكن لا تكفي هذه الرؤية وحدها لإزالتها والتخلص منها. ذلك أن الوجود الواقعي لشعب علي هذه الأرض لمدة ستين عاما، يتطلب من "الإنسان" منا أن يدافع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولة ذات سيادة علي جزء من الأرض التي كانت لهم في يوم من الأيام، بما يتيح لأرواح بريئة تواجدت علي هذه الأرض المغتصبة أن تنعم بالأمان. ويصاحب هذا الحل أمل لا بد أن نسير إليه من خلال العمل، ذلك أنه عن طريق السلام والتعاطف الإنساني وإزكاء روح العدل قد تتغير هوية الدولة الإسرائيلية تدريجيا. وعلي هذا نبني خططنا علي المستوي البعيد. ولكن إسرائيل لا تريد السلام، ولا تريد أن يكون هناك كيان مستقل للشعب الفلسطيني، ولقد كانت جولدا مائير أكثر صدقا عندما عبرت عن هذا بقولها إنها لا تعرف "من هم الفلسطينيون، وأنه لا يوجد شعب تحت هذا الاسم". لم يعد مثل هذا التصريح مقبولا علي المستوي العالمي اليوم، ولكن العمل علي خلق صراعات بصورة مستمرة في المنطقة هو المركبة التي تستثمرها إسرائيل للوصول إلي أهدافها وأولها هو القضاء علي الهوية الفلسطينية وبالتالي علي الشعب الفلسطيني. وجاءت مطالبتها للفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية في سياق هذه السياسة المستفزة. والآن فإن السؤال هو ما هو مغزي اصرار ليبرمان ونتنياهو علي ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل ؟ قد يبدو السؤال ساذجا في أول الأمر، وقد يسارع الكثيرون في الإجابة واتهام من يسأل هذا السؤال بالجهل. ويقولون إن الإجابة بسيطة وواضحة فإن إسرائيل بهذا الاعتراف تتنكر لحق العودة الذين أجبروا علي الخروج من أرضهم بعد عام 1948، وأيضا التخلص من المواطنين غير اليهود علي أرض الدولة. وعلي الرغم من أن هذا الرأي له وجاهته، إلا أن حق العودة أمر مرفوض تماما، ولا مجال إطلاقا للتفاوض فيه، لأنه يعني انهيار الدولة اليهودية، وإسرائيل ليست في حاجة إلي اعتراف العرب أو غيرهم بأن اليهود من حقهم أن تكون لهم دولة علي أرضهم التاريخية. أما عن تهجير غير اليهود خارج الدولة فإن ساسة إسرائيل بخبث شديد أنكروا تفكيرهم في طرد غير اليهود، ولكنهم اشترطوا أن يكون كل مواطن داخل هذه الدولة مدينا بالولاء لها، وأن يدخل في الخدمة العسكرية، ويشارك في حروب جيش الدفاع الإسرائيلي. وهو أمر قد يبدو منطقيا علي مستوي القانون الدولي، ولكنه يحطم الهوية العربية داخل أرض إسرائيل، وفيه قهر وإذلال للفلسطينيين الحاصلين علي الهوية الإسرائيلية. ولكن إضافة إلي ماسبق فإن هذا الإصرار فخ تريد به السياسة الإسرائيلية أن تثبت للعالم أن العرب يرفضون استمرار إسرائيل في الوجود، وانطلاقا من هذه النقطة فإنها تكثف الضغط علي السياسة الأمريكية بل وعلي العالم أجمع من أجل الاستمرار في خلق أمر واقع جديد علي الأرض التي استولت عليها بعد حرب 67، وبهذا تغلق أي فرصة للتصالح العربي، وتستمر في تحقيق خططها طويلة المدي والتي يكون القضاء فيها علي الشعب الفلسطيني تدريجيا هو الخطوة الأولي. إذا تم الاتفاق علي هذه الرؤية، ينبغي علي العرب أن يكونوا حريصين ألا تصل إسرائيل إلي أهدافها، وهو ما يستلزم بناء خطاب عربي قادر علي الخروج من هذا الفخ، دون أن يحقق لإسرائيل مرادها. ولكن قبل مناقشة كيفية بناء هذا الخطاب، دعنا أولا نحاول أن نحلل هذه الدعوة في اطارها السياسي والأيديولوجي. إصرار إسرائيل علي ضرورة الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية يتجاهل أن اعتراف العرب بوجود دولة إسرائيل هو موافقة ضمنية منهم علي التسليم بوجود دولة يهودية في المنطقة. ومن المعروف أن إسرائيل قد قامت لتكون دولة لليهود في أنحاء العالم، ودينيا فإن أرض فلسطين هي أرض الميعاد ولا بد أن يتجمع عليها اليهود حتي يظهر المنتظر. ومن المعروف أيضا أن إسرئيل ليس لها حدود د سياسية معلنة ولكن الحدود المتفق عليها هي حدود الأرض القديمة (من الفرات إلي النيل)، وذلك علي أقل تقدير، ما لم يستدع النمو الديموجرافي متطلبات أخري للتوسع. فهي إذن بطبيعة تكوينها دولة عنصرية عدوانية. والمفارفة هنا أن السادات عندما بدأ مبادرة السلام، كان يلعب لعبة سياسية ولم يكن يريد من قريب أو بعيد أو لأي سبب أن يعترف بالكيان الصهيوني بصفته الأيديولوجية، ولكنه أراد أن يخرج من آمال بدت له بعيدة المنال في ظل تشردم عربي، وبين احتياجات مصر لبيئة آمنة نسبيا تستطيع من خلالها أن تواكب تقدمها ونموها الحضاري والاقتصادي. وبصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق مع مبادرة السادات، وقد أصبح الاتفاق أو الاختلاف لا يجدي الآن بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما علي هذه المبادرة، وما أعقبها من تغيرات جذرية في علاقات الدول العربية بالدولة الصهيونية، واستعدادهم لتقبلها، يتضح لنا أن قبول دولة إسرائيل في المنطقة بالنسبة للعرب لا يحمل في طياته كل هذه الأبعاد الأيديولوجية التي تميز بها الدولة العبرية نفسها في العالم. واصحبت السياسات العربية اليوم تنظر إلي هذه الدولة باعتبارها واقعاً يصعب التخلص منه، ولذا فإنه من الأفضل التعامل معه، وفي نفس الوقت يحاول المجتمع العربي الوصول إلي تسوية تضمن للفلسطينيين حقوقهم الإنسانية، وحقهم في إنشاء دولة لها كيان وسيادة. وهذا في الواقع هو جوهر المبادرة العربية التي ترفضها إسرائيل. ولذا فإن إصرار سياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف علي ضرورة اعتراف العرب والفلسطينين بيهودية الدولة ، يحرك المياه الراكدة، ويجعل الخلاف الجذري يصعد علي السطح، وهو ما تريده إسرائيل، فهي علي المستوي الخطابي تريد أن تظهر للعالم علي أنها دولة تريد السلام، ولكن علي المستوي السياسي، تريد أن تشعل الفتن هنا وهناك، وتثير الزوابع في كل مكان، لأن هذه هو السبب الذي يجعل الشعب الإسرائيلي أكثر تماسكا، ويجعل إسرائيل تبدو وكأنها الضحية للعداء العربي، بل وأن اليهود هو الشعب المهدد بالفناء نتيجة اضطهاد العالم له. وهذا المطلب الجديد الذي تصر عليه من شأنه أن يثير زوبعة من الغضب والرفض بين العرب وبين الفلسطينيين، وهي الورقة التي تستخدمها لتصعد من سياستها العنصرية، ومن خطتها في القضاء علي الشعب الفلسطيني. وعلي خط مواز فإن إسرائيل تعمل علي خلق واقع جديد بالإستمرار في بناء المستوطنات، وتحاول أن تناور بقدر المستطاع في إبقاء الصورة الجميلة، والمحافظة علي السياسة الباغية الشرسة. فهي تتنازل عن بعض الأمور التي لن تضرها علي المستوي الطويل، مثل "ايقاف بناء المستوطنات مؤقتا"، "والموافقة التي لا تخرج عن حيز القول بإنشاء دولة للفلسطينيين"، ولكنها تصر علي الاستمرار في البناء بعد أن تكسب ورقة رابحة جديدة تمكنها من تقوية جهودها، وتستفز الفلسطينيين ليكون مجرد التعبير عن الغضب مبررا للقضاء عليهم. وأعتقد أن بناء الخطاب السياسي للعرب والفلسطينيين ينبغي أن يقوم علي تفويت هذه الفرصة أمام إسرائيل، وبدلا من الثورة علي هذا المطلب بشكل مباشر، فليكن البديل هو ايقاع إسرائيل في الكشف عن وجهها العنصري من خلال التساؤل عن دلالة هذا الاعتراف الذي تريد أن تنتزعه إسرائيل علي حقوق المواطنة للفلسطينيين وحق الأقليه المسلمة والمسيحية في دولة يقال إنها ديمقراطية، أن تعبر عن أيديولوجياتها السياسية ، وعن تداعي هذه الرؤية علي سلام وسلامة المنطقة، وعلي ضرورة رسم حدود سياسية لدولة إسرائيل يتفق عليها الفلسطينيون والعرب والمجتمع الدولي. وهكذا فإن العرب والفلسطينيين يطالبون إسرائيل أن تتخلي عن "العنصرية" وعن التوسع غير المحدود علي الأرض العربية، ويوضحون بل يصرون في نفس الوقت أن إزالة إسرائيل من الوجود ليس هدفا، ولكن التخلص من الفكر العنصري الصهيوني هدف لا يخص مصالح العرب وحدهم، ولكنه يتعلق بالضمير الإنساني في كل مكان، حيث أنه بعد هذا التاريخ الطويل للإنسان وما عانته البشرية من أهوال الحروب والصراع نتيجة للفكر العنصري، فلا يكون من اللائق تواجد فكر مثل الفكر الصهيوني الذي لا يعترف بحق الحياة لشعب فلسطين، والذي يعمل علي القهر والسيادة للأقلية العربية المسلمة والمسيحية من المواطنين. إن تحويل القضية إلي قضية حقوق إنسان وإثارتها علي المحافل الدولية انطلاقا من هذه الرؤية، قد يجعل إسرائيل تتطير غضبا وتظهر ما تحاول أن تخفيه. وأما إذا كان الأمر هو انطلاق الخطاب العربي لإعادة القول بما نعرفه عما تريده إسرائيل، يصبح الأمر تحصيل حاصل. فهل نستطيع أن نبني دبلوماسية عربية موحدة، لا تأخذ الطعم وتقع في الفخ، بل تجعل هذا الفخ طعما لتظهر إسرائيل علي حقيقتها؟ قد يكون هذا هدفا استراتيجيا مرحليا، نستطيع من خلاله أن نحرك العالم ليقف مع الحق والعدل وتدعيم شعب يريد البقاء علي خريطة العالم.