مر شهر الصوم سريعا ومابين فرحة بمجيء عيد، وأسف علي انقضاء الأيام بسرعة فائقة في شهر ننتظره كل عام بشوق وأمل في تزكية النفوس،شاركت كثيرا من الناس تأملهم للحياة وإعادة تقييم لما نمر به علي المستوي الشخصي والمستوي العام. وأخذت عيناي تتصفح الأخبار من هنا ومن هناك، مابين خوف من انتشار أنفلونزا الخنازير، وترقب لما ستأتي به الأيام في القضية الفلسطينية، وقضايا داخلية كثيرة ومتنوعة: انتشار الزبالة، الوعود بنظافة القاهرة، الحديث المتجدد عن الغلاء والفقر والفقراء، وتجديد الذكريات عن أحداث 11 سبتمبر وغيرها من الموضوعات. ولكن لفت نظري خطاب الرئيس في ليلة القدر وذكره للقدس، وإذا بغصة تملأ وجداني كله، وشعور بالألم والحزن العميق. وتذكرت قوله تعالي "لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون". فهذه الآية تبعث في النفس الأمل، وتشحذ الهمم، ولكن لا بد أن يكون الأمل مبنيا علي الواقع، فلن تتحقق الأحلام ونحن غرقي في انتظار معجزة، أو متجاهلون للواقع تماما، وغارقون في عصر آخر وفي زمن آخر. هكذا حدثتني نفسي. وتساءلت هل اتخذ قادة العالم الإسلامي من شهر رمضان فرصة لمحاسبة النفس، ومراجعة الواقع. إن مليار مسلم في العالم قوة لا يستهان بها، خاصة إذا ماعلمنا أن اليهود في العالم أجمع 13 مليون فقط، ونصف هذا العدد أو أقل يعيش في فلسطينالمحتلة. كيف يمكن أن تقف هذه القلة في وجه هذه الكثرة بهذا الجبروت، وأين يكمن الضعف في الأمة الإسلامية، ولماذا لا نطهر هذه الأرض المقدسة من هذا المحتل الغاشم. أسئلة بسيطة، وبينما يبدو الحلم قيد أنملة، إذا به يهرب حتي يحسبه الإنسان سرابا بقيعة. وانطلاقا من اليقين أن الحق لابد منتصر في يوم ما، فإن الاستعداد لنصرة الحق يجب أن يأخذ مكانه علي أرض الواقع. لقد سئمنا الشعارات والدعوة إلي القضاء علي العدو، ولا بد أن يكون للاستعداد وجه آخر. يجب أن ندرس لماذا نحن ضعفاء _ ليس فقط علي المجال العسكري، ولكن وهو الأهم علي المستوي المعنوي المتمثل في ذلك الانهزام النفسي الذي يحول دون أن نلتقي علي هدف واحد، وأن نتعامل بصورة تعبر عن روح الإسلام التي تتوجه إلي الخير ونشر العدل في العالم أجمع، والتي لا تتخذ من أي متابعين لأي دين أعداء، تجعل عدوها الأول هو ما يحول بينها وبين قوة الإيمان، ونشر الخير. يكمن ضعفنا في تجاهلنا للمنهج العلمي في التفكير والتخطيط، وفي الخلط بين الإيمان والتواكل، بين الدفاع عن الحق والاندفاع بروح الانتقام. ولا شك أن هناك أمورا أخري علي المستوي الاقتصادي والسياسي والتكنولوجي والاجتماعي تعيقنا علي أن نبرز للعالم بالقوة الجديرة بدين عظيم وحضارة غيرت وجه العالم. ولكن سأتناول في هذا المقال بإيجاز نقطتين فقط من أسباب ضعف الأمة الإسلامية، والتي أحسب أن كثيرين غيري قد صالوا وجالوا في تحليلها، وأتمني ألا يكون كلامي من قبيل التكرار والإعادة. ولذا سأبدا بالانهزام النفسي، ذلك أنه أساس كل مظاهرالضعف الأخري، ويرجع هذا الانهزام إلي التذبذب ما بين تأكيد الذات من ناحية، والانبهار بحضارة الغرب من ناحية أخري، فيأخذ تأكيد الذات مظاهر شكلية بحته دفاعا عن الهوية، وينتج عن الانبهار بالحضارة الغربية شعورا بالدونية وعدم القدرة علي ملاحقة انجازاتها، مما يؤثر سلبا علي روح الإبداع ويقلل من الثقة في النفس، وكلما قلت ثقتنا في أنفسنا، كلما لجأنا إلي القشور من المظاهر الدينية نحمي به أنفسنا، تتباعد الشقة بيننا وبين تحقيق الغايات التي نسعي إليها، وهكذا ندور في حلقة مفرغة. وإذا بالدين _ وهو عامل قوة _ ينقلب إلي عامل ضعف، لأنه كأداة ثقافية للدفاع عن النفس، ينجرف به الناس إلي مهاجمة الآخر، أو تقليده تقليدا أعمي. فإذا أضفنا إلي ذلك أن قيادات العالم الإسلامي بشكل عام تتوجه إلي المحافظة علي كراسي الحكم أكثر مما تعطي من جهدها ووقتها لخدمة شعوبها. وهي قيادات في أغلب الأحيان لا تأخذ شرعتيها من تأييد شعوبها، ولكنها تفرض عليهم وجودها. وللأسف فإن هذا النموذج من القيادة يصبح جزءا من ثقافة الإدارة في العالم الإسلامي، فيحاول كل رئيس أن يسيطر علي مرءوسيه، ويتقرب إلي رؤسائه دون اعتبار للمصلحة العامة، بل برغبة جارفة في استمرارية القيادة أو الارتقاء إلي درجة أعلي. وللانهزام النفسي صور أخري ناتجة من تحكم قليل من الدول في مصير العالم، وعدم كفاءة المنظمات الدولية في تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، فلقد جاء في مقدمة مبررات إنشاء منظمة اليونسكو الاتجاه نحو نشر ثقافة سلام بين شعوب الأرض، ذلك بناء علي قناة بأن الحروب قبل أن تأخذ مكانها علي الأرض، فإنها تبدأ علي مستوي العقول. ومع ذلك نجد أنه بعد مرور أكثر من نصف قرن علي إنشاء هذه المنظمة، مازالت فكرة العداء والعداوة هي المسيطرة، بل إن نشأة إسرائيل نفسها هي نتيجة لفكرة اضطهاد اليهود في أنحاء العالم، وضرورة تجمعهم في أرض الميعاد، ولكي يحققوا هذا الهدف فإنهم استلبوا الأرض والحياة من غيرهم. وأما الأممالمتحدة فإنها عجزت منذ بداية نشأة الدولة العبرية عن تحقيق العدل في المنطقة، ذلك أن قرار التقسيم نفسه لم يكن عادلا في الوقت الذي صدر فيه. ولم ينجح العرب في أن يكونوا قوة رادعة حقيقية، والأسباب تناولها المؤرخون بالتحليل، ولكن المساندة المستمرة للمعتدي من قبل الدول الكبري، والتقليل من قيمة الظلم الذي يقع علي الشعوب المعتدي عليها، أفقد تلك الشعوب رؤية واضحة عن كيفية تحقيق أهدافهم، فأصبحت المقاومة العشوائية أداة لم تحقق إلا القليل من المكاسب، في مقابل خسائر هائلة مادية واستراتيجية. في هذا الجو المشحون بالضعف المعنوي من الصعب أن تتجمع كلمة المسلمين كي يحققوا لنفسهم هدفا. ولو أرادوا أن يكون تحرير القدس هدفهم، لكان هذا الهدف وحده كفيل بخلق نهضة في مجالات عديدة ومتعددة. وأما السبب الآخر وهي التخلي عن المنهج العلمي في التفكير، وهذا أيضا نتيجة للانهزام النفسي، الذي يجعل أقرب وسيلة للراحة هو الاعتماد علي قوي غير منظورة نظن أنها ستحقق لنا النصر دون جهد منا، وننسي أنه عندما ارتكب المسلمون الأوائل أخطاء في عصر الرسول الذي كتب ربه علي نفسه نصر رسالة الإسلام، فإن المسلمين الأوائل قد حصدوا نتيجة أخطائهم ، فعندما استهوتهم الغنائم، استطاع خالد بن الوليد أن يجد ثغرة، ويحيط بهم ويهزمهم في موقعة أحد. وهذا درس يجب أن نتعلمه، ذلك أن النصر والهزيمة والتفوق والانكسار يتبع قوانين ويتطلب تفكيرا واخلاصا، ولقد تحقق نصر العبور في أكتوبر 73 نتيجة لتفكير علمي وتخطيط وتكاتف، وكا ن لحظة ميلاد ثقة، وبداية لنهضة، أجهضت لأسباب كثيرة. حقا إن الواقع الذي نعيش فيه معقد للغاية، والتوازنات العالمية والإقليمية تجعل تحرير القدس أملا صعب التحقق في المدي القريب، ولكنه ليس مستحيلا. إن مراجعة النفس التي هي أحد نفحات شهر رمضان الكريم، ستجعلنا ندرك أن الضعف والوهن الذي ينخر في جسد الأمة الإسلامية هو نتاج للهروب من الواقع، وعدم التخطيط بجدية من أجل المستقبل. وإذا أعاد كل فرد منا الحساب مع نفسه، لأدرك أننا كلنا مسئولون كشعوب عن هذا الضعف العام، فما كان يمكن لقيادة غير رشيدة أن تستمر، إذا كان هناك وعي وإرادة شعبية قادرة علي الدفاع عن العدل والحق والمساواة. ولكن للأسف فإن عدم مراجعة النفس ينتج عنها الخنوع والاستسلام من ناحية، ومن ناحية أخري يعظم من استمراء الفساد وتعظيم الأنانية، وحب السيطرة، وهي أمراض متفشية في المجتمعات الإسلامية. حتي يمكن أن نسترد القدس فنحن في حاجة إلي الشفاء النفسي، فهل حققنا بعضا من محاسبة النفس في هذه السنة في رمضان؟ وهل سيكون رمضان فعلا فترة للإفاقة وشفاء النفس ليكون عيدنا الحقيقي هو تحرير القدس؟ هذا أمل وإن غدا لناظره قريب.