ليس التجاهل الإعلامي للمؤتمر المهم الذي عقدته حركة "مصريون ضد التمييز الديني" هو علامة الاستفهام الوحيدة، خاصة وأن هذه الحركة التنويرية كرست مؤتمرها هذا العام لمناقشة قضية بالغة الخطورة، ألا وهي "التمييز في التعليم". ورغم أن هذه ظاهرة بالغة الخطورة، لأنها تضرب أحدي دعائم ومرتكزات التنشئة الاجتماعية وصقل الهوية الوطنية.. ورغم أن كل بيت في مصر، من الاسكندرية إلي أسوان، يلمس تفاقم واستفحال هذه الظاهرة السلبية، بحيث أصبحت المدارس ومعاهد التعليم، وحتي دور الحضانة ورياض الأطفال أماكن للفرز الطائفي وبؤرا لتفريخ التعصب والتزمت.. رغم ذلك كله لاذت الغالبية الساحقة من وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بالصمت المطبق، رغم أن كثيراً منها يبحث عن أي "حبة" ليصنع منها "قبة"، ويملأ الدنيا صخباً وضجيجا علي سفاسف الأمور. ومن هنا .. فإن هذا الصمت الإعلامي المريب، والغريب، يثير تساؤلات كثيرة عن السبب الذي يشل يد كثير من الاعلاميين عن التناول "المهني" لهذا المؤتمر. ألا يعني هذا أن التمييز قد تغلغل حتي في داخل المؤسسات الاعلامية بحيث أصبحت تغض الطرف عنه وتتجنب تسليط الأضواء علي المبادرات القليلة التي تحاول فضح صوره القبيحة، بما يقترب من "التواطؤ"؟! التساؤل الثاني من نصيب الحكومة نفسها، وبالتحديد وزارة التضامن الاجتماعي التي ترفض الترخيص لحركة "مصريون ضد التمييز الديني" المعروفة اختصاراً باسم "مارد" والتي تشكلت في أغسطس 2006 - كما يقول أمينها العام وأحد مؤسسيها الرئيسيين الدكتور محمد منير مجاهد - "كتطوير لمقاصد بيان بعنوان "مسلمون ضد التمييز" صدر في أعقاب اعتداء مسلح علي ثلاث كنائس بالاسكندرية في أبريل من نفس العام، قام به شخص وصفته أجهزة الأمن بأنه مختل عقليا، وتحدد هدف المجموعة في مناهضة التمييز الديني والدفاع عن حقوق المواطنة الكاملة لكل المصريين.. واشتبكت مجموعة "مارد" منذ تأسيسها مع قضايا التمييز الديني في المجتمع وأصدرت عددا من بيانات التضامن مع ضحايا التمييز الديني، كما شاركت ببياناتها وبكتابات أعضائها في توضيح رأيها في التعديلات الدستورية ولتنقية القوانين من كل ما يميز بين المصريين علي أساس الدين، وقامت بتنظيم عدد من الندوات تعالج جوانب مختلفة للتمييز الديني، ورأي بعض أعضاء "مارد" أهمية تطوير العمل بايجاد شكل مؤسسي، فتقدموا بطلب في 9 ديسمبر 2007 لمديرية التضامن الاجتماعي بالجيزة لاشهار مؤسسة أهلية باسم "مؤسسة مصريون في وطن واحد". لكن وزارة التضامن الاجتماعي اعترضت، وجاء في الخطاب الذي وجهته الي وكيل المؤسسين بتاريخ 27 يناير 2008 "نحيط سيادتكم علما بأن المديرية تأسف لعدم قيد المؤسسة حيث توافر لها مقومات المادة 11 من القانون 84 لسنة 2002 ولائحته التنفيذية". والسؤال الذي أتوجه به اليوم إلي الدكتور علي المصيلحي وزير التضامن الاجتماعي، وإلي حكومة الدكتور أحمد نظيف بأسرها، هو : لمصلحة من يتم رفض إشهار جمعية أهلية تناهض التمييز الديني؟ وألا يعطي هذا الرفض الحق للرأي العام في أن يستنتج - بمفهوم المخالفة- أن لهذه الحكومة مصلحة في تأجيج هذه النعرات الطائفية والتيارات المتعصبة تغطية لسياسات وحرفا للانظار عن ممارسات سياسية واقتصادية بعينها؟ لقد كان من المفترض ان تقوم الحكومة بتشجيع مثل هذه المبادرات بعد أن وصل التمييز الديني والفرز الطائفي إلي مستويات خطيرة أشاعت مناخاً هستيرياً في البلاد عزز ثقافة الكراهية والتعصب والتزمت، وأصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لأمن مصر القومي، في فترة حرجة تشهد تحولات دراماتيكية علي المستويين العالمي والاقليمي، وتتلمظ فيها قوي أجنبية كثيرة للتنطع علي شئوننا الداخلية باستخدام ذرائع الفتنة الطائفية وغيرها من الممارسات القبيحة التي تمثل انتهاكاً صريحاً لحقوق الانسان. لكن بدلا من أن تقدم الحكومة لهذه المبادرة الايجابية الشجاعة يد العون والدعم والمساندة قبلت لها ظهر المجن ووقفت جنبا إلي جنب مع أكثر العناصر والاتجاهات تعصبا وتخلفا ضد الترخيص بقيامها! إذن نحن لسنا إزاء مواقف "فردية" تكرس التمييز الديني وغير الديني، وإنما نحن إزاء مواقف "مؤسسية" .. وهذا هو الخطير في المسألة برمتها. فمؤسسة الحكم ترفض الترخيص لحركة أهلية تستهدف مناهضة التمييز الديني. ومؤسسة التعليم - الرسمي وغير الرسمي - "ترعي" هذا التمييز جهاراً ونهاراً في المناهج والمدارس. ومؤسسة الإعلام - الحكومي والحزبي والخاص - أصبحت جزءا من المشكلة كما رأينا حتي نقابة الصحفيين تورطت في هذا المستنقع، مرة بخضوعها للابتزاز والبلطجة من أجل إلغاء انعقاد المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الديني يومي 11 و12 أبريل 2008 بمقرها، ومرة ثانية بتصويت مجلس النقابة بأغلبية كاسحة ضد استضافة المؤتمر الوطني الثاني مؤخرا، ولم يشذ عن هذا القرار المتناقض بصورة مطلقة مع تاريخ النقابة التي ظلت حصنا للحريات والدفاع عن الديموقراطية وحقوق الانسان منذ إنشائها سوي النقيب الاستاذ مكرم محمد أحمد الذي وقف وحيداً هو والزميل الاستاذ جمال فهمي عضو المجلس بينما رفع الباقون أياديهم رفضا لاحتضان النقابة مؤتمرا مناهضا للتمييز الديني في التعليم!! ويجب أن نعترف بهذه الأبعاد الكارثية التي وصلت إليها ظاهرة التمييز الديني في بلادنا، وألا نهون من شأنها، ونظل نجتر الشعارات المنافقة التي تزعم أن كل الامور تمام وان الامر لا يعدو أن يكون تصرفات فردية أو زوبعة في فنجان. فالأمر جد خطير .. وما حدث مؤخرا بصدد مؤتمر مناهضة التمييز الديني درس ينبغي أن نتعلمه جيداً وان نستنتج منه الاستنتاجات الصحيحة دون لف أو دوران.