رغم التنبؤات المتشائمة التي كانت تتوقع عدم مشاركة مؤيدي أوباما في التصويت، فالذي حدث بالفعل في ذلك اليوم كان مختلفا تماماً... حيث خرج الأمريكيون، خصوصاً من فئة الشباب، بأعداد هائلة، ووقفوا ساعات طويلة أمام مراكز الاقتراع، انتظاراً لتسجيل تأييدهم لمسألة إدخال تغييرات كبيرة في القيادة الأمريكية. لم يكن انتخاب باراك أوباما في الرابع من نوفمبر الحالي، كي يكون الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدةالأمريكية، حدثاً تاريخياً، فقط لأن أوباما كان أول أمريكي من أصول أفريقية يصل إلي البيت الأبيض، وإنما أيضاً لأن فوزه بالانتخابات يمثل انعكاساً حقيقياً لتغيرات عميقة في السياسة الأمريكية، سوف تتردد أصداؤها في مختلف أنحاء العالم لعدة سنوات قادمة. وكان أوباما موفقاً للغاية عندما احتفل بهذا الفوز في متنزه"جرانت بارك" في شيكاغو، في أمسية نوفمبرية دافئة، ووسط جمع غفير متعدد الأعراق ومنتشٍ من أنصاره. فمن المعروف أن هذا المتنزه علي وجه التحديد هو الذي شهد قبل أربعين عاماً، في أغسطس 1968، بعضاً من أكثر اللحظات انقساماً واحتداداً في تاريخ الحزب الديمقراطي، وذلك عندما تحول إلي ساحة للشغب والعنف أثناء المؤتمر السنوي للحزب الذي واجه أعضاؤه المنقسمون علي أنفسهم ثورة الشباب الأمريكي، وغضبه المتزايد تجاه حرب فيتنام، ومظاهر عدم المساواة العنصرية العديدة في المجتمع الأمريكي. ويمكن لنا أن نُرجع فوز أوباما إلي عدد من العوامل المختلفة؛ منها أنه أدار حملة رائعة كان خلالها هادئ الأعصاب، رزيناً، في سلوكه العام وفي أدائه خلال المناظرات الانتخابية، وأنه كان يواجه مرشحاً (ماكين) يخوض الانتخابات خلفاً لرئيس ونائب رئيس جمهوريين كانا الأقل شعبية علي الاطلاق في التاريخ الأمريكي، ومنها أن ماكين قد ارتكب خطأ فادحاً أثر علي مصيره وذلك عندما اختار سارة بالين، حاكمة ولاية ألاسكا، كي تكون رفيقته في التذكرة الانتخابية في منصب نائب الرئيس، حيث تبين أن معظم الأمريكيين المعتدلين والمستقلين لم يكونوا موافقين علي اختيارها. فضلا عن ذلك، كانت الأزمة المالية التي بدأت بشكل جدي في سبتمبر 2008 سببًا في وضع الموضوعات الاقتصادية التي لم تكن من ضمن نقاط القوة التي يتمتع بها ماكين، علي قمة الأجندة الانتخابية للمرشحين. وهناك سبب آخر كان في صالح أوباما ومن حسن طالعه أيضاً، وهو عدم وقوع هجمات إرهابية أو أحداث دولية خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة كان يمكن لماكين أن يستخدمها لصالحه باعتباره رجلا ذا باع طويل في السياسة الخارجية، لديه القدرة علي تولي منصب القائد الأعلي للقوات المسلحة الأمريكية، علي العكس من منافسه الذي يعاني من نقص الخبرة في هذا المجال. وهناك عدد من الأساطير التي تحطمت في الرابع من نوفمبر الجاري: أولاها أن أوباما كسب أصوات ولايات بنسلفانيا، وأوهايو، وفلوريدا، وهي الولايات التي كانت كل التنبؤات تشير إلي أن الطبقة العاملة البيضاء فيها- وضمْنها أنصار السيناتورة هيلاري كلينتون في الانتخابات الأولية التمهيدية- لن تصوت لصالحه بسبب لونه. ورغم التنبؤات المتشائمة التي كانت تتوقع عدم مشاركة مؤيدي أوباما في التصويت، فالذي حدث بالفعل في ذلك اليوم كان مختلفا تماماً... حيث خرج الأمريكيون، خصوصاً من فئة الشباب، بأعداد هائلة، ووقفوا ساعات طويلة أمام مراكز الاقتراع، انتظاراً لتسجيل تأييدهم لمسألة إدخال تغييرات كبيرة في القيادة الأمريكية. ففي ولاية فلوريدا علي سبيل المثال، حصل أوباما علي أغلبية أصوات الأمريكيين من أصول لاتينية (الهسبانيك) بنسبة 57% مقابل 42% لماكين، بل إنه في أوساط الأمريكيين من أصل كوبي، والذين يعيشون في ميامي، والمعروفين بتأييدهم التقليدي للمحافظين والجمهوريين، تمكن أوباما من الحصول علي 55% من أصوات الشباب الذين تقل أعمارهم عن 29 عاماً، وهو ما يرمز إلي تغيير "جيلي" رئيسي في مواقف تلك الفئة من الأمريكيين. إن النشوة التي عمت العالم، وليس أمريكا فقط، بعد إعلان فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية وهزيمته لمنافسه الجمهوري، قد خفت الآن لتفسح المجال للتفكير في الواقع الصعب الذي يواجه أوباما والذي تأتي علي رأسه الأزمة الاقتصادية، والتركة التي سيرثها من سلفه بوش في مجال السياسة الخارجية والتي يصفها معظم المحللين بأنها "أجندة من الجحيم". وقائمة التحديات التي تواجه الرئيس الأمريكي المنتخب، لا تقل ضخامة عن التأييد الذي ناله، ليس فقط في الولاياتالمتحدة وإنما في معظم أنحاء العالم، كما لا تقل أيضاً عن حجم الآمال المتعلقة بأن هناك في الوقت الراهن أمريكا جديدة قيد التشكل. ليس هناك ريب، في أن أوباما سيخيب رجاء بعض الذين رحبوا بانتخابه خلال الشهور والسنوات القادمة، علي أساس أنه سيجد نفسه مضطراً إلي اتخاذ قرارات صعبة لن ترضي قطاعاً عريضاً من مؤيديه، أو من أولئك الذين هللوا لانتخابه. فضلا عن ذلك، سيجد أوباما نفسه مضطراً لتأجيل العديد من الوعود التي قدمها بصدد إصلاح النظام التعليمي والصحي والبيئي، ومضطراً كذلك للتعامل مع الشرق الأوسط وروسيا منذ اليوم الأول الذي يستلم فيه الحكم رسميا، كما لا يتوقع منه أن يجري تغييراً سياسياً جوهرياً في أي من الأزمات الرئيسية التي تواجه الولاياتالمتحدةالأمريكية حالياً. أما فيما يتعلق بالموضوع الإيراني، فإنه ليس من المتوقع أيضاً أن يهرع فريق أوباما نحو التسوية أو المواجهة مع تلك الدولة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان عاملين؛ أولهما أن الإيرانيين يواجهون في الوقت الراهن مشكلات في اقتصادهم بسبب انخفاض أسعار النفط، وثانيهما أن انتخاب أوباما قد حظي بترحيب واسع النطاق في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. لا شك أن أوباما سيكون رجلا ذكياً، لو عمل علي استغلال وضعيته الفريدة في القيام بسلسلة من الإجراءات التي يمكن أن يأتي علي رأسها تعزيز علاقات الولاياتالمتحدة مع حلفائها، والعمل في الوقت ذاته من أجل إقامة علاقات علي أسس جديدة مع روسيا، وتوطيد علاقات بلاده الطيبة مع القوي الآسيوية الرئيسية، خصوصاً الصين واليابان والهند. فأوباما في حاجة إلي تضبيط تلك العلاقات قبل الإقدام علي مقاربة عملية السلام العربي - الإسرائيلي المعقدة، أو صياغة جدول زمني جديد للانسحاب من العراق. ومهما بلغ حرصه علي التفكير في بنود أجندته، فإن مما لا شك فيه، أنه عندما يتسلم مهام منصبه رسمياً، في العشرين من يناير المقبل، سيجد نفسه مضطراً للتعامل مع العالم علي النحو الذي سيجده عليه. لكن ذلك لا يمنع من القول إن هناك احتمالا لحدوث صدمات يمكن أن تفسد جميع التحضيرات الدقيقة التي أعدها الرئيس الجديد لمائة يوم الأولي من ولايته.