يعرف الكثيرون في العالم ناعوم تشوميسكي بأنه ذلك المفكر الليبرالي الذي تجاوز حدود الانتماء العرقي والديني في رؤيته للعالم وقدم للبشرية منظومات فكرية لا شك أنها أضافت الكثير لرصيد الإنسانية الإبداعي وأعطت الأمل للكثيرين في إمكانية قيام عالم جديد اكثر عدلاً وإنصافاً. وقد اكتسب تشوميسكي شهرة ذائعة في العالمين العربي والإسلامي بسبب منطقه الموضوعي المجرد في تناول قضايا الشرق الأوسط ومشكلات العالم النامي، أو بمعني أصح، المتخلف، بطريقة يندر تكرارها بين المفكرين والمثقفين والكتَاب الغربيين.. وربما كان من أهم أسباب الإعجاب بهذا المفكر في منطقتنا العربية بشكل خاص أنه يهودي امريكي ولد في بولندا بشرق أوروبا حيث ولد وترعرع الفكر الصهيوني ورغم ذلك فقد اتخذ الكثير من المواقف الشجاعة لدعم حقوق العرب والفلسطينيين في مواجهة الإستعمار الإسرائيلي لأراضيهم. كما عرف أيضاً بانتقاداته الملتهبة للسياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة والقائمة علي الهيمنة والاستغلال و الإنحياز الأعمي لإسرائيل. وقد أصدر ناعوم تشوميسكي العديد من الكتب في السنوات الأخيرة حول الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي منها "مثلث الشؤم" و"قراصنة وأباطرة" و"الأنظمة العالمية" وتناولت هذه الكتب رؤيته العميقة والمحايدة ذات الطابع العلمي والإنساني أيضاً لأخطر الأحداث التي تعرض لها العالم العربي خلال النصف الأخير من القرن العشرين و بدايات القرن الواحد والعشرين. وقد صدرت مؤخراً طبعة جديدة من كتاب تشوميسكي " الأنظمة العالمية : قديمها وحديثها" (World Orders Old and New) لتؤكد اهتمامه الكبير والأساسي بالشرق الأوسط والسياسة الأمريكية في هذه المنطقة، والصراع العربي الإسرائيلي. وتناول فيها تشوميسكي قضية العراق والأهداف و الأطماع الأمريكية في هذا القطر العربي الهام. وفي هذا الكتاب يطرح تشوميسكي أفكاراً تجعله ملكياً أكثر من الملك لأنه يوجه انتقادات لاذعة للعرب بسبب هرولتهم المبالغ فيها تجاه السلام بينما تتجاهل إسرائيل محاولات التسوية السلمية لصراعها مع العرب بل تسعي بشتي السبل لنسف هذه المحاولات. ويهاجم تشوميسكي بضراوة في هذا الكتاب التنازلات العربية و الفلسطينية الهائلة التي حصلت عليها إسرائيل دون أي مقابل. ومن أخطر القضايا التي يقدمها تشوميسكي في كتابه دراسة قيمة حول تلك القضية التي يتردد عنوانها كثيراً في الصحف العربية دون الغوص في أعماقها و تأصيل جذورها و هي قضية "المعايير المزدوجة" او (Double criteria) التي أصبحت إحدي ملامح السياسة الدولية الأساسية خاصة فيما يتعلق بقضية الصراع العربي الإسرائيلي. وقد كتب الكثيرون من المفكرين والمثقفين العرب حول سياسة المعايير المزدوجة ولكن كتاباتهم كانت أقرب الي المراثي والبكائيات حيث اكتفي معظمهم بمحاولة إلصاق تهمة ممارستها علي الولاياتالمتحدةالأمريكية وغيرها من الدول الغربية دون تحليل أسبابها و أهدافها. وكانت رؤية المثقفين العرب في أغلب الأحيان تحاول تبرئة الولاياتالمتحدة من جرم انتهاج هذه السياسة عن طريق إرجاعها الي عوامل مثل نفوذ اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة أو اللجوء الي اسلوب جلد الذات من خلال توجيه اللوم للعرب بسبب عجزهم عن التأثير علي توجهات السياسة الأمريكية لصالح قضاياهم وفشلهم في إقناع أصحاب القرار في واشنطن بأن مصلحتهم الحقيقية تكمن في تأييد الحقوق العربية!!. أما ناعوم تشوميسكي، فقد تناول هذه القضية أو المسألة من منظور أكثر واقعية و شجاعة. وأشار الي أن هذه الظاهرة قديمة قدم الأنظمة السياسية ذاتها وضرب علي ذلك مثالاً بإصرار لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في عام 1932 علي أن تحتفظ بلاده لنفسها بما وصفه بحق قصف العبيد السود والمدنيين الذين يثورون علي حكمها الإستعماري في المستعمرات التي كانت خاضعة للإمبراطورية البريطانية وذلك خلال المحادثات حول معاهدة نزع السلاح. وكان هذا الإصرار يستند علي أفكار السياسي البريطاني الداهية ونستون تشرشل عندما كان وزيراً للحرب في بريطانيا عام 1919 حيث بذل جهوداً مكثفة للسماح لسلاح الطيرن الملكي البريطاني بحق استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المتمردين أو الثوار العرب الذين وصفهم بأنهم قبائل همجية لا يوجد ما يمنع من تجربة استخدام الأسلحة الكيماوية عليها!! ويؤكد المفكر الكبير ناعوم تشوميسكي في كتابه أن هذا النمط الفكري الذي عبر عنه تشرشل ولويد جورج أصبح يمثل الأساس الذي تقوم عليه المفاهيم السياسية في عالم اليوم و الذي كانت من أبرز نتائجه الحرب الأمريكية ضد العراق والتي يصفها صراحة بأنها تستهدف في الأساس حماية الولاياتالمتحدةالأمريكية لحلفائها في المنطقة بنفس الطريقة التي تتبعها عصابات المافيا الإجرامية التي تحصل علي الإتاوات مقابل هذه الحماية!! ويوجه تشوميسكي في هذا الكتاب ضربات مؤثرة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط و خاصة فيما يتعلق بقضية الصراع العربي الإسرائيلي.و يصف السلام الذي تحاول الولاياتالمتحدة وإسرائيل فرضه علي العرب و الفلسطينيين بأنه "سلام المنتصرين" الذي يستحق أن يطلق عليه اسم آخر أقرب لحقيقته و هو "الإستسلام". و يقول تشوميسكي أن الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط تفتقد لبديهيات السلام العادل وتهيمن عليها مواقف الهروب من اي محاولة للتسوية السلمية العادلة. وفي هذا الإطار ينظر تشوميسكي الي اتفاق أوسلو للسلام بين الفلسطينيين و الإسرائيليين و غيره من الإتفاقيات التي وقعتها إسرائيل مع الجانب الفلسطيني بإعتبارها وثائق استسلام خاصة و أن اتفاقيات أوسلو، التي تراجعت عنها حكومة آريل شارون الحالية، تعني أن تبقي نسبة خمسين في المائة من الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة بينما يظل النصف الأخر من الضفة أسيراً لأوضاع غامضة تحت رحمة المستوطنات الإسرائيلية وفي مواجهة أخطار خلق واقع ديموجرافي جديد عبر هذه المستوطنات. وحتي اتفاقيات أوسلو 1993 والتي ظلمت الشعب الفلسطيني و انتهكت حقوقه، لم تكن كافية لإرضاء النهم الإسرائيلي حيث رأي شارون أن توازنات القوي بين إسرائيل و الفلسطينيين تتيح لها الحصول علي كل شيء ولذلك فليس هناك ما يجبرها علي أن تتنازل لهم حتي عن الفتات !! لذا يري تشوميسكي أن الانتفاضة أثبتت فشل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وأكدت افتقادها لثقة المتشددين الدينيين وأيضاً العلمانيين الفلسطينيين الذين ينتقدون الفساد المستشري داخل هذه القيادة. وفي أحد فصول الكتاب الهامة يتحدث تشوميسكي عن تطورات النظام السياسي الإقتصادي في العالم و يوجه إنتقادات شديدة لما يسمي بالنظام العالمي الجديد الي درجة أنه يصفه بأنه كوميديا من صنع الرئيس بوش و بأنه مجرد وهم لا وجود له. و قد تجلي فشل هذا النظام الذريع في اندلاع الحروب و الصراعات في مختلف أنحاء العالم. وفي إطار هجومه الشديد علي السياسات الخارجية الأمريكية، يعود تشوميسكي مرة اخري الي الصراع العربي الإسرائيلي فيؤكد بالأرقام أن إنتهاكات إسرائيل لاتفاقاتها السلمية مع الفلسطينيين تجاوزت كل الحدود وأن الجيش الإسرائيلي قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين بعد توقيع هذه الاتفاقات بينهم أعداد كبيرة من الأطفال و النساء. وقد لجأت القوات الإسرائيلية الي أساليب مروعة في قهرها للفلسطينيين مثل التنكر في الملابس المدنية و تشكيل فرق اغتيالات لقتل الفلسطينيين علي طريقة "فرق الموت" المشهورة في امريكا اللاتينية. الأكثر من ذلك، أن مؤيدي السلام في إسرائيل أصبحوا يتعرضون لممارسات غير إنسانية بالإضافة الي حرص إسرائيل علي إشعال الصراعات داخل البيت الفلسطيني. و في هذه النقطة يردد ناعوم تشوميسكي الفكرة الشائعة بأن إسرائيل هي المسئولة عن خلق الجماعات الدينية المتطرفة بين الفلسطينيين بهدف إشعال حرب أهلية فلسطينية. ويحمل تشوميسكي الولاياتالمتحدة مسئولية ما أسماه بالفوضي الديموجرافية التي تتعمد إسرائيل نشرها بهدف استغلالها في خلق واقع سكاني جديد تبرر به استيلاءها علي الأراضي الفلسطينية و تستند اليه في رفضها الإنسحاب من أكثر من تسعين في المائة من الأراضي الفلسطينية بحجة أن الوجود اليهودي في هذه الأراضي يجعلها عاجزة عن الإنسحاب. والدليل علي ذلك , كما يقول تشوميسكي أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون قدمت لإسرائيل بعد إتفاقيات أوسلو 430 مليون دولار لبناء مستوطنات بشرط أن تكون خارج القدس. وفي نفس الوقت تركت إسرائيل تستغل هذه الأموال في بناء مستوطنات داخل القدس وخصصت منها 17 مليون دولار لبناء مستوطنات في هضبة الجولان السورية المحتلة. نفس الأسلوب اتبعته الإدارة الأمريكية الحالية للرئيس جورج بوش والتي تغدق من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين علي إسرائيل لبناء المستوطنات وتقدم لها أحدث الأسلحة التي تستخدمها في قتل المدنيين والأطفال الفلسطينيين وتنفيذ أطماعها في حقوق و أراضي عرب فلسطين. و يؤكد تشوميسكي أن إسرائيل لم تكن أبداً جادة في المشاركة بفعالية في عملية السلام وأن قادة إسرائيل يرفضون الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.. كما يؤكد أيضاً أن الفلسطينيين يقدمون تنازلات مذهلة لإسرائيل بينما تنتهج الولاياتالمتحدةالأمريكية من الفلسطينيين موقفاً لا يمكن وصفه إلا بالظلم و التعسف علي حد وصف تشوميسكي نفسه. وهكذا، يطرح هذا المفكر الليبرالي ناعوم تشوميسكي رؤيته الجريئة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط وهي رؤية تؤكد علي عدة حقائق موضوعية لايراها العرب و ربما يتعمدون عدم رؤيتها وتجاهلها. ويقول تشوميسكي ان إسرائيل تخاف بل وتشعر بالذعر من السلام و تسعي لتدميره في كل مناسبة تلوح فيها إمكانية التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي.فقد تقدم العرب بعشرات المبادرات السلمية وكان رد إسرائيل الدائم هو التخريب والتدمير. فقد ردت علي مبادرة القمة العربية في فاس بالمغرب بغزو لبنان وعندما تقدم الملك فهد عاهل السعودية بمبادرة سلمية كان الرد هو إختراق الطائرات الإسرائيلية للمجال الجوي السعودي. وبجانب ذلك، تسعي إسرائيل، كما يقول تشوميسكي الي طرد أكبر عدد ممكن من سكان الضفة الغربية لتتحول الي نظام الأقاليم المتعددة "البانتوستانات"الذي كان سائداً خلال العهد العنصري في جنوب افريقيا. و قد تصدي تشوميسكي لمحاولات امريكا إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب وأوضح بجلاء دوافع ما يسمي بالعنف العربي الناتج عن التعرض لظلم تاريخي. ويحكي تشوميسكي قصة سقوط أحد القراصنة في أسر الإسكندر الأكبر الذي سأله.. كيف تجرؤ علي ممارسة القرصنة في البحار داخل إمبراطوريتي؟ وكان رد القرصان علي الإسكندر الأكبر في صورة سؤال آخر إذ قال: وأنت كيف تجرؤ علي ممارسة القرصنة في العالم بأسره؟ إنني أفعلها بسفينة صغيرة فتقولون عني أني لص ( أو إرهابي) ولكن حين يفعلها الإسكندر بأساطيله الضخمة يقال عنه أنه إمبراطور عظيم !!. إن هذه الآراء الجريئة التي يطرحها ناعوم تشوميسكي ضد إسرائيل بشكل خاص كانت كفيلة بأن تصمه بتهمة "معاداة السامية" التي يوجهها اليهود والصهاينة ضد كل من ينتقد سياساتهم العدوانية التوسعية. والواضح أن ديانة تشوميسكي اليهودية قد أنقذته من التعرض لهذه التهمة. ورغم ذلك فقد وجد الصهاينة لقباً آخر يطلقونه علي هذا المفكر الليبرالي الحر وهو أنه "اليهودي الذي يكره نفسه" والحقيقة أن تشوميسكي يستحق لقباً اخر هو جدير به بكل تأكيد وهو " الإنسان الذي يكره أعداء الأنسانية ".