صرح جيمس كاميرون في أحد اللقاءات معه بأنه قضي الفترة الطويلة التي فصلت بين فيلمه الأشهر تيتانيك وفيلمه الجديد أفاتار في استكشاف عالم أعماق البحار. وقد فاجأني الرد وشعرت بالحقد علي كاميرون الذي امتلك ترف قضاء كل هذه السنوات في عمل شيء يحبه, شيء لا يمكن أن يخطر لمثلنا علي بال, شيء خارج سقف المفكر فيه خاصتنا باستعارة تعبير تشومسكي. لكني, وبعدما رأيت فيلم أفاتار أدركت أنه كان من المهم أن يتمكن العقل البشري من الهروب ولو لبرهة من سجن تفاصيل حياته اليومية المكررة, أن يعلو فوقها, أن يهرب لعالم مغاير, ربما مثل عالم البحار, لكي تأتيه قدرة الابداع, الابداع بمعني التحليق خارج سقف التفكير المسموح لنا به وتقديم فكرة جديدة أو رؤية مختلفة لأفكار قديمة.هذا ما فعله كاميرون في أفاتار علي مستوي الفكرة والتنفيذ, لن أتحدث عن التنفيذ لأننا كنا قبل سنوات نتحدث عن التقنية الحاسوبية التي صنعت المخلوق البشري المشوه جالوم الذي ظهر في دور كامل في ملحمة لورد أوف ذا رينجز, والتي صنعت القزم السحري دوبي الذي ظهر في دور كامل بالمثل في هاري بوتر, واليوم وفي أفاتار سيكون علينا أن نتحدث عن فيلم كامل كل أبطاله من المخلوقات الكمبيوتورية الخالصة, وكأن كل الممثلين قد بقوا في منازلهم وذهب الكمبيوتر وحده الي الاستوديو وفعلها. أما عن الفكرة فهي ليست جديدة تماما لكنها تظل براقة وعميقة وقد وضعت في هذا الفيلم في إطار ملحمي حميم. ويمكن أن نصيغ لهذه الفكرة عناوين كثيرة: العلم في مواجهة عالم الماورائيات, المادة في مواجهة الروح, الآلة في مواجهة الطبيعة, البشر والإخلال بالتوازن الطبيعي, جبروت القوة في مواجهة كل ما هو إنساني وبريء, زيف أفكار التطور والتقدم الخطي( بمعني تراتب الحضارات علي سلم صاعد في أسفله البرابرة المنحطين وفي أعلاه الحضارة الغربية الحديثة) هذه الأفكار التي قدمتها منظومة الحداثة ويعمد الفلاسفة منذ عقود علي تكسيرها مؤكدين غباء ثنائية متخلف/ متقدم, وعلي أن الأصل هو الاختلاف وتعدد خطوط التقدم( خط التقدم التقني ليس الخط الوحيد للتقدم, بل هناك مثلا خط التفوق الروحي لدي الشرقيين بعامة, وخط المزج الناجح بين الجانب الروحي والمادي لدي المسلمين بخاصة). يمكننا بالطبع أن نفسر الفيلم تفسيرا سياسيا لأن حضارة باندورا الفضائية البدائية بتعبير البشر المعتدين في الفيلم, تسبح فوق مادة نادرة ثمينة هي ال اون أوبتانيوم, وقد حشد البشر الأشرار قواهم الناعمة( الثقافية/ التعليمية) وقواهم العسكرية ضد شعبها نافي ذلك الشعب شديد الايمان بالقوي الروحية الذي يصفه البشر ب البرابرة الارهابيين, طمعا في الحصول علي هذه المادة, ولا شك أنك إذا سميت هذه المادة ب البترول فيمكن أن تضع تفسيرا مشهورا وقريبا منا لهذا الفيلم. لكني أري أن فكرة الفيلم أوسع من هذا التفسير الاخير الذي ربما بدا ملائما في بعض الأحيان. أظن أن ما يجعل الفيلم في صدارة أرقام الايرادات الامريكية ليس فقط تلك التقنية العالية, وصبغة الأكشن التي تطبعه, وكونه في الأخير ضمن منظومة الخيال العلمي, وهي السمات التي يحبها الأطفال والشباب الذين هم أهم جمهور السينما الأمريكي, لكن النقطة الأهم في شعبية الفيلم في نظري تتعلق بالجانب الروحي الذي يقدمه. لعلنا نلاحظ أن الكثير من الشباب حول العالم يتطلعون لنمط جديد من الخطاب الثقافي يعتبر بالجانب الروحي أو الإيماني بوجه عام. وللمتشككين في هذا الرأي إليكم ظاهرة نجاح باولو كويلهو علي سبيل المثال, فكويلهو الضعيف أدبيا قدم أفكارا غير مألوفة عن عالم الروح والماورائيات والعلامات الكونية, استعار بعضها من أجواء ألف ليلة( كما في السيميائي روايته الأشهر) واستعار بعضها الآخر من القصص الديني, وقد منحته هذه الأفكار شهرته وجعلت له مريدين في كل أرجاء العالم. لقد مل الناس هناك التحديث والميكنة ونما في نفوسهم نوع من الحنين للعوالم الخيالية والسحرية والماورائية بوجه عام, ومنها عالم الإيمان الذي يتمتع أكثر من غيره بصفة الأمل الذي يحتاجه كثيرون كملاذ وسند. تجدر الإشارة ربما رلي نوع من النقد يوجهه البعض إلي الفيلم واصفين إياه بأن فيه نزعة عرقية تتمثل في الإصرار علي فكرة إنقاذ البطل الأبيض للشعوب البدائية. وهي فكرة تذكرنا بقصص طرزان, البطل الغربي الأبيض الذي يقهر القارة السمراء, ويشير آخرون في الولاياتالمتحدة إلي قصة الفتاة بوكاهانتوس التي تعلم البطل الأبيض عادات شعبها ثم يصبح هو المنقذ, ويؤكد هؤلاء فكرتهم هذه بالقول أن مؤدي أصوات شعب نافي في الفيلم كلهم من غير البيض. والحقيقة فرغم البناء المنطقي لطروح هؤلاء, ورغم أن المسألة العرقية تظل حاصرة في كثير من الأعمال الغربية كما هي في الواقع والتاريخ الغربيين, لكننا عندما ننظر لأفاتار نظرة محايدة خالية من عقد العرق المسبقة, فقد نقرأ هذه المسألة بشكل مختلف, إذ أن بطل الفيلم يقرر في النهاية وفي مشهد رمزي الخروج نهائيا من جسده البشري متخذا بصفة أبدية شكل واحد من شعب نافي, وذلك في قناعة تامة بقيم نافي وما تمثله, وموقفه يشبه موقف كيفين كوستنر من قبل في الراقص مع الذئاب, وأظن أن المهم ليس أن يكون البطل أبيض فصاحب الفيلم أبيض ومن حقه أن يتناول الأمور من وجهة نظره, المهم هو الموقف الذي يتخذه من الآخرين. كذلك فهذا المشهد الرمزي في نظري لا يجب أن نقرأه قراءة عرقية بل قراءة تقنية, إذ كأنه يؤرخ لعصر جديد يحتل فيه الأبطال ثلاثيو الأبعاد مكان الممثلين من البشر, وهو ما كان تنبأ به منذ سنوات فيلم سيمون الذي لعب بطولته آل باتشينو. الجميل في أفاتار وفي غيره من الأفلام الناجحة, انه يجذبك الي عالم مختلف بالكلية ويجعلك تعيش تفاصيله, وهو لا يقدم رسالته الفكرية أو الفلسفية في إطار من الخطابة والتحذلق السطحي, بل علي العكس تماما يصنع حكاية إنسانية بسيطة يستمتع بها الطفل والبالغ والجميع, وهو يتيح لك الفرصة للتفكير في أشياء كثيرة بحسب اهتمامك وتوجهك, جميلة ورائعة هي صناعة السينما حينما تكون بهذا المستوي.