هكذا صدر التقرير الأول عن حالة الإصلاح في العالم العربي معبرا بصورة أساسية ليس عن حالة الإصلاح الذي له وجوه سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة، وإنما عن حالة الديمقراطية أرجو ألا يتعجب القارئ الكريم كثيرا مما جاء في العنوان، فالديمقراطية 505 ليست إشارة إلي رقم حافلة ذاهبة إلي مكان معين، وهي ليست رقما لحساب بنكي خاص بالديمقراطية، وإنما هي التقدير الكمي الذي أعطته مبادرة الإصلاح العربي لحالة الديمقراطية في العالم العربي. وحتي تكون الأمور دقيقة، فهي أنه رغم أن التقرير الذي قدمته المبادرة خلال مؤتمرها السنوي الذي عقدته في مكتبة الإسكندرية في نهاية الأسبوع الماضي وكان تحت عنوان "حالة الإصلاح في العالم العربي 2008" إلا أن الحقيقة هي أن التقرير لم يكن عن الإصلاح وإنما عن الديمقراطية _ وهناك فارق كبير- وكان عن ثماني دول عربية ( وهي مصر والسعودية والأردن ولبنان واليمن والجزائر والمغرب وفلسطين) وليس كل الدول العربية المشكلة للعالم العربي _ وهذا فارق كبير آخر. وقد استند التقرير إلي عدد من المؤشرات الكمية وخلص منها إلي أنه بين الدول الثماني حازت الأردن علي المكانة الأولي (609) والمغرب علي المكانة الثانية (561) وفلسطين علي المكانة الثالثة (553) ومصر علي المكانة الرابعة (512) واليمن علي المكانة الخامسة (494)، ولبنان علي السادسة (489)، والجزائر علي السابعة (479)، والسعودية علي الثامنة ( 346). وتعود قصة هذا التقرير إلي بضع سنوات مضت عندما كان حديث الديمقراطية منتشرا للغاية في المنطقة العربية كلها بسبب ذلك التحول الذي جري في فكر الولاياتالمتحدة وفي إدارة الرئيس جورج بوش الابن علي وجه الخصوص. فبعد انهيار منطق الرئيس في غزوه للعراق استنادا إلي موضوع أسلحة الدمار الشامل، وجد الرئيس ومعاونوه من المحافظين الجدد ضمن ملفاتهم الكثيرة أن موضوع الديمقراطية في البلاد العربية لا يصلح فقط لكي يكون سببا جديدا لتبرير الغزو الأمريكي للعراق، بل إنه أيضا يصلح للتعامل مع موضوع الإرهاب والاعتداء الذي جري علي الولاياتالمتحدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد أصبح التفسير الأمريكي لما جري هو أن الإرهابيين الذين قاموا بمهاجمة الولاياتالمتحدة نتجوا في الأساس عن مجتمعات ودول سلطوية وديكتاتورية، ولو كان لهؤلاء، أو هكذا جري المنطق، فرصة أخري في بلادهم للمشاركة السياسية لما قرروا الاعتداء علي الآخرين وقتلهم بقلوب باردة. ورغم أن هذا المنطق بدا غريبا وساذجا ومستندا لحقائق قليلة مع قدر كبير من الزيف، فإنه وجد ساحة من التأييد من جماعات واسعة في الغرب حتي تبنته مجموعة الدول الثماني، ومن بعدهم جماعات ودول أخري. وبعد قدر من الاحتجاج من الدول العربية فإنها لم تلبث أن شاركت هي الأخري وفقا لمنطق يقول إنها كدول وحكومات كانت سائرة بالفعل علي طريق الإصلاح الديمقراطي، وهكذا جري التقاء موضوعي علي هدف مشترك رغم استمرار الشك علي طرف، والاحتجاج والتململ علي طرف آخر. وبين هذا وذاك كانت الجماعة الديمقراطية في العالم العربي لا تعرف ما الذي تفعله في هذه المسألة، فهي لم تكن تريد تحولا ديمقراطيا يأتي علي أسنة الرماح الأمريكية، ولكنها في نفس الوقت كانت تئن من غياب ديمقراطية طال انتظارها حتي بدا "الاستثناء العربي" حقيقة وليس ادعاء. وهكذا بدأت جماعات متعددة في البحث عن طريق مستقل عاونها فيه أن النظم العربية المختلفة لم تعد تمانع من طرح الموضوع والبحث فيه انتظارا ليوم آخر؛ وهكذا صدر العديد من المبادرات في معظم الدول العربية. وشاءت الأقدار أن أكون ضالعا بشكل مباشر في واحدة من هذه المبادرات عندما توصل عدد من الأكاديميين العرب إلي أن موضوع الديمقراطية في العالم العربي من التعقيد والإشكاليات بحيث يحتاج إلي "ذراع بحثي" ومع خريف عام 2004 انطلق ما عرف بعد ذلك بمبادرة الإصلاح العربية، وعلي مدي عام أصبح مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام هو مركز هذه المبادرة، وبالنسبة لي شخصيا فقد كنت رئيسها علي مدي عامين. وقامت المبادرة علي شبكة من ثمانية مراكز بحوث عربية، صارت عشرة بعد ذلك، تقوم كلها، وفيما بينها، بالبحث العلمي في المسألة الديمقراطية في العالم العربي بتمويل من مؤسسات عربية وأجنبية. وبعد أربعة أعوام من المبادرة فإن إنتاجها العلمي بات مرموقا، ومتابعا لحالة الديمقراطية في المنطقة العربية، ولكن أفضل ما كان فيها فقد كان تكوين تلك الشبكة من المهتمين والباحثين في الموضوع الذين باتت لديهم مساهمات قيمة علي ساحة البحث العلمي في الموضوع. وفي نهاية الأسبوع الماضي انعقد في مكتبة الإسكندرية المؤتمر السنوي لمبادرة الإصلاح العربي وكان الموضوع الرئيسي فيها هو تقرير " حالة الإصلاح العربي 2008" الذي قدم تقييما كميا وكيفيا للحالة الديمقراطية في العالم العربي. والجدير بالذكر هنا هو أن الأصل في الموضوع نتج عن مبادرة مصرية سبقت التقرير الحالي حيث نتج عن "مبادرة الإسكندرية للإصلاح العربي"- وهي مبادرة أخري انطلقت من مكتبة الإسكندرية- ما عرف بالمرصد العربي لقياس الديمقراطية استندت إلي فكرة ومفاهيم قدمها الأستاذ السيد ياسين-مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام وعالم الاجتماع المعروف والمرموق- قامت كلها علي الدراسة الكيفية لمؤشرات اقتصادية واجتماعية وسياسية في الدول العربية. ورغم وجود هذه المحاولة الجادة، فقد جري النقاش داخل المبادرة العربية للإصلاح ومكتبة الإسكندرية حول عما إذا كان البحث الكيفي يعد كافيا في تقييم الحالة العربية أم أن هناك حاجة إلي مقياس كمي منافس للمقاييس العالمية المعروفة ويكون أكثر قربا من الحقيقة لأن الباحثين القائمين به عرب يستندون إلي بيئة بحثية عربية أيضا. وفي العام الماضي استقر الرأي علي تكوين فريق عمل بقيادة الدكتور خليل الشقاقي مدير مركز البحوث السياسية والمسحية في رام الله _ فلسطين لكي يعد تقريرا كميا حول حالة الديمقراطية في العالم العربي، كان هو العلامة المميزة للمؤتمر السنوي لمبادرة الإصلاح العربي. وربما كانت الصعوبة الكبري التي واجهت فريق البحث فقد كانت انقسام الباحثين العرب، وهو انقسام عالمي بين علماء العلوم الاجتماعية علي أية حال- بين أنصار البحوث الكيفية والكمية. ولكن من الناحية العملية فقد كان غياب المعلومات أو نقصانها يمثل عقبة كبيرة، وأضيف لها أن البحث في هذا العام كان يمثل "سنة الأساس" أو القاعدة التي سوف تجري المقارنة علي أساسها في الأعوام القادمة. ولكن مثل هذه العقبات لم تمنع الباحثين من المضي في المغامرة حتي آخرها، فتم وضع 40 مؤشرا كميا للديمقراطية جري اشتقاقها من أربعة مؤشرات كبري: المؤسسات القابلة للمساءلة، سيادة القانون، ضمانة الحقوق الفردية والجماعية، العدالة الاجتماعية. وكان المعيار الأساسي للاختيار في المؤشرات هو أن يكون لها دلالة في حقل السياسة العملية بمعني أنه يمكن ترجمتها بعد ذلك إلي توصيات بسياسات يمكن انتهاجها من قبل الدول والمجتمعات. وهكذا صدر التقرير الأول عن حالة الإصلاح في العالم العربي معبرا بصورة أساسية ليس عن حالة الإصلاح الذي له وجوه سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة، وإنما عن حالة الديمقراطية وهو ما يعكس نوعا من الأولويات لدي الجماعة البحثية التي باتت تعتبر الإصلاح الديمقراطي علي رأس المهام المطلوبة في المجتمعات العربية. وكانت الخلاصة التي توصل إليها التقرير أن حالة الديمقراطية في العالم العربي الآن يمكن ترجمتها إلي الرقم 505 ، وهو رقم لا يعني الكثير في حد ذاته الآن، ولكنه يمثل المحصلة الخاصة بمجموعة من المؤشرات والذي سيصير أساسا للمقارنة عندما يتم إصدار التقرير في السنوات المقبلة لقياس عما إذا كان العالم العربي أكثر اقترابا أو ابتعادا عن الديمقراطية. وفي حدود تقرير هذا العام فقد كانت هناك ثلاث توصيات مهمة: أولها أنه مع أهمية التشريعات الديمقراطية إلا أن مشكلة العالم العربي الآن ليست الحاجة للمزيد من التشريعات، وإنما البحث في الكيفية التي يتم بها تطبيق هذه التشريعات. وثانيها أن العالم العربي يحتاج بشدة إلي تعزيز سادة القانون الطبيعي ومن ثم فإن هناك حاجة إلي إلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية الأخري. ورابعها أن انجح الطرق لتعزيز العدل الاجتماعي هي التأكيد والتركيز علي أهمية إصلاح التعليم وشئونه المختلفة. هذه التوصيات الثلاث لا تختلف كثيرا عن توصيات مماثلة أصدرتها منتديات عربية أخري، وربما يكون التأكيد عليها له فائدة التركيز علي اتجاهات محددة للإصلاح. فالفجوة بين التشريعات والممارسات هائلة، وفيما عدا السعودية التي شغلت المكانة الثامنة في الترتيب الديمقراطي بين ثماني دول جري عليها البحث، فإنها كانت هي الدولة التي تتطابق فيها التشريعات مع الممارسة. وقد تلي السعودية في ذلك الأردن التي حازت علي المكانة الأولي في الترتيب العام ولكنها كانت في المكانة الثانية فيما يتعلق بالفجوة بين التشريعات والتطبيق، وهو ما يعطي الانطباع أن الدول الملكية في العموم كانت أكثر اتساقا بين ما تقول وتلتزم به وما تنفذه بالفعل. وعلي العكس من ذلك فإن مصر التي حازت علي المكانة الأولي بين الدول من حيث ديمقراطية التشريعات فقد كانت هي أقلها التزاما بها وأكثرها فجوة بين التشريع والتطبيق. وعلي أي الأحوال فإن زيادة عدد الدول العربية التي سوف يتم بحثها خلال الأعوام المقبلة سوف يقول ما هو أكثر في هذا الإطار. علي أي الأحوال فقد أعادنا مؤتمر الإسكندرية لمبادة الإصلاح العربي إلي قضية الديمقراطية مرة أخري في وقت ساد فيه الظن أن القضية برمتها قد غطاها النسيان. ومع اقتراب فترة جورج بوش من نهايتها، والتراجعات التي جرت علي المسار الديمقراطي في دول عربية كثيرة خلال العام الماضي، فقد بدا أن الموضوع قد فقد أهميته بعد أن غطتها أحداث أكثر أهمية في العراق وفلسطين ولبنان. ولكن ربما كان في الأمر اختبار، فعندما طرحت الولاياتالمتحدة حديثها عن الديمقراطية استنكر الجمع العربي المسألة علي أساس أن القضية "عربية" في المقام الأول؛ وقد ثبت أن القضية ليست أمريكية لأن واشنطن انصرفت عن الموضوع مع تغير الظروف، وبقي أن يثبت العرب أن القضية عربية مهما تغيرت الظروف !!.