عرفت مصر الحياة النيابية علي غرار الحياة السياسية منذ جولة جديدة لانتخاب برلمان يمثل الشعب المصري، وهذا البرلمان في صورته الحالية صورة مشوهة للبرلمانات في أوروبا، ويعود هذا التشويه إلي عدة أسباب لا مجال لذكرها في هذا المكان، ولكن أحد أبرز هذه الأسباب هوأن الحياة النيابية في صورتها الحالية هي نتاج الخبرة السياسية الأوربية، وليست نتاجاً للخبرة المحلية التي تطور المشاركة في صنع القرار السياسي وفقاً للموروث الحضاري. إن صلب الاختلاف بين التجربة المصرية التاريخية حدثت بين المصريين وبينها انقطاع، وبين التجربة الأوربية هوالاختلاف في المفاهيم والرؤي. فالصراع هوالمحرك للعملية السياسية الأوروبية، ولذا صار مفهوم الصراع هومحور علم السياسة الأوروبي، ومن ثم قامت الأحزاب السياسية بدور مهم في بلورة هذا الصراع داخل المجتمعات الأوروبية، وتحويل هذا الانقسام إلي انقسام وصراع منظم سواء من خلال الأحزاب أوجماعات الضغط. ويعبر هذا التنظيم عن تحقيق النموذج الحديث في الحكم، والذي يجب أن تحتذي به المجتمعات الأخري من وجهة النظر الغربية. وهذه العملية تغذي مفهوم الصراعات في المجتمعات. وإذا نظرنا إلي مدي تعبير النظم الحزبية وجماعات الضغط في الواقع عن المجتمع سنكتشف طبقاً لتحليل أجراه دكتور نصر عارف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن هذه المؤسسات تعمل لخدمة مصلحة أصحاب رؤوس الأموال. الذين يمولون برامج الأحزاب والحملات الانتخابية، بينما تقوم جماعات الضغط والمصالح بممارسة الرشوة والإفساد السياسي بصورة علنية وصريحة. أما التفاهم والمشاركة في اتخاذ القرار فهوالمفهوم السائد داخل المجتمع المصري، قبل دخول نابليون بونابرت مصر محدثاً بحملته قطيعة مع التجربة التي كانت تنموفي مصر العثمانية بمرور الوقت. تمثل مفهوم التفاهم والمشاركة في صنع القرار السياسي في مصر العثمانية من خلال مؤسستين الأولي حملت طابعاً رسمياً، والثانية حملت طابعاً أهلياً كان له سلطة اتخاذ القرار لصالح المجتمع. أما المؤسسة الأولي فهي الديوان العالي ، أنشيء هذا الديوان في مصر بناء علي قانون نامة مصر الذي أصدره السلطان سليمان القانوني العام 1525م، لينظم شئون حكم مصر، وكان يعقد جلساته أربع مرات أسبوعياً في ديوان الغوري بقلعة صلاح الدين مقر حكم مصر آنذاك، أما أعضاء هذا الديوان فهم الوالي العثماني ونائبه وقاضي العسكر وقاضي القضاة ورئيس الإدارة المالية والأمراء ورؤساء الطوائف العسكرية. وينضم إليهم أحياناً المشايخ والعلماء ورؤساء الطوائف ومن له شأن في القضايا المطروحة علي الديوان. وفي الديوان العالي كانت تدرس وتناقش تعليمات السلطنة العثمانية لإدارة مصر. كما كان يقرأ مرسوم تولية الولاة أوعزلهم. وتتم مناقشة الشئون المالية، وتوزيع الجمارك والتزامات الأراضي والمناصب المهمة. كما كان الديوان يقوم بمحاكمة كبار رجال الدولة في حالة نشوب نزاع لهم مع الأهالي، وذلك كمحكمة استئنافية في حالة عدم إنصاف المحاكم الصغري لهؤلاء المظلومين. ولكننا هنا سنتوقف أمام واحد من أهم مسئوليات الديوان، وهو محاسبة الوالي المعزول عن مصروفاته أثناء الولاية، وعن النفقات العامة، محاسبة عسيرة في معظم الأحيان، وهوما يعني مسئولية الحاكم عن تصرفاته أمام هذه المؤسسة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في سجلات الديوان العالي، والتي ترتب كيفية محاسبة الباشا، وكان يحضر الجلسة الباشا المعزول ويشار إليه في محضر اجتماع الديوان هذا بكل ألقابه المعتادة وبكل الاحترام اللائق به ، ويحضر الإجتماع كبار رجال الدولة. ثم يقوم الروزمانجي بتحديد موقف الباشا من مالية مصر. هل سدد دين الديوان ووفي بالجراية والعليق ومرتبات الموظفين ومقدار الخزينة الميرية في عهده وهل وفي بجميع الالتزامات المالية المطلوبة منه أم لا ؟ وفي حالة وفاء الباشا بكل التزاماته كان يعلن في الاجتماع أن ذمته قد برأت من كامل ما كان مطلوباً منه لجهة الروزنامة العامرة مدة تصرفه بوصول ذلك بالتمام والكمال. وإذا لم يسدد الباشا التزاماته المالية يقوم بتوقيع إيصالات يتعهد فيها بسداد المطلوب منه. وفي بعض الحالات حينما يثبت تورط الباشا في فساد مالي كان يتم حبسه ومصادرة أملاكه. وطور المجتمع المصري في العصر العثماني صورة كانت جديدة علي كل المجتمعات الإسلامية، هذه الصورة عرفت بالجمعية، وهي المؤسسة الثانية التي شارك من خلالها المجتمع بكل طبقاته وطوائفه في صنع القرار السيسي وتوجيهه، وهي تجربة رائدة تعكس توحد المجتمع في اتجاه البحث عن حل للمشاكل التي يواجهها. ولأن الجمعية نتاج للخبرة التراكمية للمجتمع فقد كانت إجتماعاتها تعقد في إحدي قصور كبار الأمراء في القاهرة، وفي حالات قليلة كانت تعقد في الديوان العالي بالقلعة، وكل ممثلي المجتمع المصري أعضاء فيها بدءاً من أمراء العسكر العثمانيين فالأمراء المماليك، فمشايخ طوائف الحرف، فالعلماء والأشراف ، وكبار ملاك الأراضي ومشايخ الحارات. ومن الطريف أن هذا التكوين السياسي يضم كل مؤسسات المجتمع المدني آنذاك، وبالتالي كان القرار الصادر من الجمعية هوقرار كل المصريين. ويتضح بمرور الوقت من خلال الوثائق والسجلات والحوادث التاريخية اعتراف السلطان العثماني بالجمعية وإلتزامه بقراراتها. وكذلك الوالي العثماني علي مصر، بل إن كليهما كان يلجأ إلي عقد الجمعية في أوقات الشدائد والأزمات بين السلطة والمجتمع. فعلي سبيل المثال في العام 1114 هجرية/ 1702 ميلادية حدثت أزمة نقدية شديدة في مصر لعدم توفر الفلوس النحاسية ، فاجتمع أرباب الصنائع والتجار وذهبوا إلي الجامع الأزهر وشكوا للعلماء ما هم فيه من قبل انتشار الفضة المغشوشة وندرة الفلوس النحاسية. واتفق الجميع علي رفع الأمر للوالي الذي كتب فرماناً بعقد جمعية من جميع طوائف المجتمع لبحث المشكلة. وعرض علي آغا عدداً من الحلول لها. واستقر رأي الحاضرين علي أن يتولي منصب آغا الانكشارية وهي أحدي فرق الحامية العثمانية بمصر لتنفيذ خطته. وبالفعل تولي هذا المنصب وقام بمهمته بنجاح. وبعد عزله من منصبه في سنة 1116 هجرية/1704 ميلادية ارتفعت الأسعار ارتفاعاً كبيراً فعقدت جمعية جديدة رفض حضورها. وأرغمت الجمعية الوالي علي إعادته لمنصبه مرة أخري مع إعطائه صلاحيات واسعة لضبط حركة السوق الاقتصادية. وبلغ الأمر بهذه الجمعية الاعتراض علي أوامر السلطان العثماني ورفضها، كما حدث في العام 1152هجرية/ 1739ميلادية، حينما أرسل السلطان أمراً بعزل الأمراء المماليك عن إدارة الجمارك في مصر، علي أن يتولاها أفراد يعينهم هو، واجتمعت الجمعية في منزل عثمان بك ذوالفقار بكامل أعصائها من طوائف المجتمع، وقرر الحاضرون الاعتراض علي أمر السلطان، ورفع التماس له لإلغاء هذا الأمر، ولم يكن أمام السلطان مفرا من إلغاء أمره. وتكرر عقد الجمعية في مرات عديدة لعزل الوالي العثماني في مصر، وكان هذا العزل لأسباب عديدة، قد يكون من بينها عدم توافق سياسة الوالي مع الأمراء المماليك، أوظلمه أوتعسفه.وكان آخر والي عزلته الجمعية هوخورشيد باشا سنة 1805 ، الذي عزلته الجمعية وولت بدلاً منه محمد علي، الذي حرص بعد توليه علي وقف عقد الجمعية وانفرد بحكم مصر، علي عكس تعهده لأعضاء الجمعية بالرجوع إليهم في كل شأن يريد إنفاذه. وسعي محمد علي ومن بعده خلفاؤه ثم الاحتلال الإنجليزي علي تفتيت المجتمع المدني المصري الذي كان ممثلاً في الجمعية وخلق حياة نيابية علي النمط الغربي لم تلق إلي الآن نجاحاً يذكر. ولوكان لها النجاح والتأثير العميق في مصر لدافع عنها المصريون بشدة حين صادرتها ثورة يوليو لصالح حكم العسكر. إن من الملفت للنظر أن هذه الجمعية بنجاحها في تولية محمد علي قد بدأت أولي خطوات الرسوخ في الحياة السياسية، وهوما كان سيتيح لها فرصة التبلور، وهذا هوالفارق بينها وبين طبيعة الحياة النيابية الغربية التي أتيح لها فرصة للتبلور والتشكل وفق المعطيات الخاصة بالمجتمعات التي نمت فيها.