تحتفل إسرائيل، ومعها عدد غير قليل من دول العالم وفي مقدمتها الدول الغربية والولايات المتحدة خاصة، بمرور ستين عاما علي إنشائها؛ وبالمقابلة فإن الشعب الفلسطيني، ومعه الدول العربية والإسلامية الحليفة له والمتبنية لقضيته سوف يصبح عليهم التذكر في مضي ستة عقود من الفشل في تحقيق الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية بل الحصول علي الحرية من الهيمنة والسيطرة الاستعمارية الإسرائيلية. ومن بين جميع حركات التحرر الوطني التي عرفها العالم خلال القرن العشرين، فإن حركة التحرر الوطني الفلسطينية ربما كانت هي الوحيدة التي لم تحقق أهدافها بينما استطاعت شعوب في البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية أن تحصل علي حق تقرير المصير وأقامت دولتها الخاصة التي تعبر فيها عن ذاتها وتقاليدها. وفي الوقت الراهن، ورغم كل هذه المدة منذ صدور قرار التقسيم الذي قال بدولة فلسطينية عام 1947 ، فإن الحالة الفلسطينية لم تكن بعيدة عن إقامة الدولة كما هي الآن. بل إن أول حالة من حالات الكيان الفلسطيني في التاريخ ممثلة في السلطة الوطنية الفلسطينية، فإنها لم تلبث أن فقدت شرعيتها بالنسبة لكل الشعب الفلسطيني حيث أقيمت سلطة في غزة تدعي شرعية التمثيل الفلسطيني وخيانة جماعة رام الله للقضية وتبعيتها وعمالتها للولايات المتحدة وإسرائيل. وبالمقابل فإن ما بقي من السلطة في الضفة الغربية اعتبر السلطة الموجودة في غزة حركة انقلابية وعميلة لإيران وسوريا. وهكذا فإنه بعد سنوات من المعاناة والنضال، والصعود والهبوط، فإن حركة التحرر الوطنية الفلسطينية وصلت إلي أسوأ حالاتها من حيث قربها من تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية. وبعد أن كان لهذه الحركة ممثل شرعي هو منظمة التحرير الفلسطينية فإن هذه الحركة فقدت عمليا هذا التمثيل بعد أن نازعته الشرعية حركات ادعت أنها الممثل الشرعي مثل حركات حماس والجهاد الإسلامي خاصة فيما يتعلق بقرارات الحرب والسلام، والقرارات الكبري للأمن الوطني الفلسطيني. وبشكل ما فإن الأهداف الرئيسية للحركة الوطنية الفلسطينية في إقامة دولة يعود لها الفلسطينيون ويعتبرونها ممثلة لهم لكي تطالب بحقوقهم بما فيها حق العودة إلي فلسطين لم تكن أبعد مما هي عليه الآن. وأكثر من ذلك فإن هدف الكثير من الفلسطينيين لم يعد العودة إلي فلسطين بقدر ما أصبح الهدف لعدد غير قليل منهم أن يخرجوا من فلسطين ويلجأون إلي دول أخري. وخلال الأحداث الأخيرة منذ قامت حماس بانقلابها في غزة وفصلها القطاع عن الضفة الغربية فإن قرابة 150 ألفا من الفلسطينيين غادروا فلسطين _ أو ما بقي منها _ إلي بلدان أخري؛ وقبل ذلك وبعد نشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 فإن عدد الفلسطينيين الذين تركوا الديار تجاوزوا 250 ألف نسمة. والجدير بالذكر أن المغادرين ينتمون إلي الفئات الأكثر تعليما وثروة في المجتمع الفلسطيني. والأخطر من كل ما سبق أن حركة التحرر الوطني الفلسطينية فقدت الكثير من التعاطف العالمي الذي كانت قد حصلت عليه طوال العقود الماضية. وخلال السنوات الأولي بعد النكبة في عام 1948 حصلت القضية الفلسطينية علي تأييد دول العالم الثالث والدول الاشتراكية فضلا عن العالمين العربي والإسلامي. وبعد قيام منظمة التحرير الفلسطينية حصلت الحركة علي المزيد من التأييد الدبلوماسي وضع ياسر عرفات علي منصة الأممالمتحدة. وبعد نشوب الانتفاضة الأولي حصلت الحركة علي تأييد قطاعات واسعة من الشعوب الغربية، وأصبحت زيارات ياسر عرفات إلي البيت الأبيض أكثر من كثرة من زعماء وقادة العالم. ولكن مع الانتفاضة الثانية، وعسكرتها، وبزوغ حماس كفاعل رئيسي في حركة التحرر الفلسطينية فإن التأييد العالمي للقضية الفلسطينية لم يلبث أن تراجع حتي أصبحت "القضية المركزية" في ذيل القضايا العالمية. ولم يلبث عدد من دول العالم الثالث البارزة مثل الهند والصين أن أخذت في تجاهلها. وحتي في العالم العربي فإن قضايا أخري مثل العراق ولبنان ما لبثت أن أخذت عن القضية مركزيتها وأهميتها. والحقيقة أن الفشل الفلسطيني لم يكن راجعا لنقص في الهمة، ولا لتقاعس في بذل التضحيات، أو إلي عدم استعداد لبذل الروح والنفس والنفيس في سبيل الوطن والقضية. فالثابت أن الفلسطينيين قد قدموا تضحيات هائلة، وبطولات لا حدود لها، ولم يكن هناك نقص أبدا في عدد الفلسطينيين الذين علي استعداد للتضحية أو دخول السجون لسنوات طويلة. وفي الوقت الراهن فإن هناك ما يزيد علي عشرة آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية، وهناك عدد من الفلسطينيين تجاوزت عدد سنوات سجنهم 25 سنة، أو ما يقارب ويزيد علي كل أطال حركات التحرر الوطني في العالم. ولكن مع كل هذا الاستعداد للتضحية فقد فشلت الحركة رغم أنها غيرت من أساليبها علي مدي العقود الستة من كفاحها. وفي البداية بعد النكبة اعتمدت الحركة علي الدول العربية لكي تستطيع تحرير فلسطين فانشغلت الدول العربية بأمورها ومشاكلها وخلافاتها. ومنذ منتصف الستينيات اختار الفلسطينيون " القرار الفلسطيني المستقل" وقاموا بشن حروب العصابات علي إسرائيل من قواعد في الأردن ولبنان. واستفادت الحركة من الإنجاز العربي عام 1973 للوصول إلي الأممالمتحدة والحصول علي الاعتراف العالمي، ولكن الحركة اختارت في نفس الوقت أساليب الحركات اليسارية الإرهابية، واندمجت في الحرب الأهلية في لبنان فكان الخروج من بيروت بعد الخروج من عمان في مرحلة سابقة. ورغم الوعود التي طرحتها الانتفاضة الفلسطينية الأولي وما أتاحته من عودة حركة التحرر من وجودها البعيد في تونس وعواصم عربية أخري إلي الأراضي الفلسطينية من خلال اتفاقية أوسلو فإن الحركة فشلت تماما في خلق مؤسسات الدولة، والحفاظ علي وحدة السلاح، والحق الشرعي في احتكار القوة، أو باختصار أسس قيام الدولة. وعلي العكس من ذلك فإن استخدام السلاح ظل عملية خاصة بكل فصيل فلسطيني ففشلت أسلو ومن بعدها عسكرة الانتفاضة الثانية حتي انقسمت السلطة إلي كيان في غزة وآخر في رام الله. والحقيقة أن الفشل لم يكن قاصرا علي جماعة فلسطينية دون غيرها. وسواء كانت القيادة للحاج أمين الحسيني، أو لأحمد الشقيري أو لياسر عرفات أو أحمد ياسين أو محمود عباس أو خالد مشعل، أو كان الأسلوب هو حروب العصابات أو الإرهاب الثوري أو العمليات الاستشهادية أو الانتفاضات السلمية أو المسلحة فقد كانت النهاية هي الفشل. وبالطبع فإنه يمكن إلقاء الفشل علي إسرائيل التي كانت دوما عدوا شرسا حاصلا علي تأييد عالمي غير محدود؛ ومع ذلك فإن السؤال يبقي لماذا كان الفشل واقعا بهذه الفداحة رغم أن دولا وجماعات أخري نجحت في الحصول علي استقلالها وحريتها في مواجهة أعداء لا يقلون شراسة وحدة وعدوانية ؟ إن القضية تستحق فحصا جديا يتحمل فيه الفلسطينيون والعرب المسئولية عما اقترفوه، أو علي الأقل علي القدر من المسئولية الذي ينبغي عليهم تحمله. وعلي الأقل فإن ذلك هو أقل ما يجب بعد ستين عاما من الفشل والتراجع والتضحيات التي جعلت الدم يجري انهارا بلا مقابل ولا عائد ولا دولة ولا حرية؟!.